أعاد رحيل جوردون مور؛ المؤسس المشارك لشركة “إنتل”، وأحد رواد صناعة أشباه الموصلات “وادي السيليكون”، إلى صدارة المشهد مرة أخرى، ملقيًا الضوء على مسيرة هذه المنطقة الاستثنائية التي تحولت من مجرد أرض زراعية إلى عاصمة التكنولوجيا العالمية.
لعب “مور” دورًا محوريًا في صياغة مسار التكنولوجيا الأمريكية، وساهم على نحو كبير في ترسيخ مكانة وادي السيليكون، كمركز لابتكار تكنولوجيا المعلومات.
بدأت قصة وادي السيليكون في مطلع الربع الثالث من عام 1955، مع وصول مختبر شوكلي لأشباه الموصلات إلى المنطقة، شهدت هذه الحقبة بزوغ فجر ثورة التكنولوجيا؛ حيث ظهرت العديد من الشركات الرائدة مثل: فير تشايلد سيميكونداكتر وإنتل، ما جعل الوادي بؤرة لريادة الأعمال والابتكار.
عبقرية هندسية ومساهمات جبارة
رحل جوردون مور، عن عمر ناهز 94 عامًا، تاركًا وراءه إرثًا هائلًا في مجال التكنولوجيا، اشتهر مور بتأسيس شركة إنتل عام 1968م، وشغل منصب نائب الرئيس التنفيذي والرئيس التنفيذي لمدة عقدين تقريبًا.
ولكن مساهمات “مور” لم تقتصر على تأسيس إنتل، بل لعب دورًا محوريًا في صياغة قانون مور؛ وهو المبدأ الذي حكم نمو صناعة أشباه الموصلات لعقود؛ حيث تنبأ مور بمضاعفة عدد الترانزستورات على رقاقة إلكترونية كل عامين، ما مهد الطريق لثورة هائلة في مجال الإلكترونيات والكمبيوتر.
وادي السيليكون
يعد وادي السيليكون، اليوم: موطنًا لأكثر من 30 شركة متعددة الجنسيات تتصدر قائمة فورتشن 1000، ويضم 85 مليارديرًا و163 ألف مليونير.
أصبح هذا المصطلح مرادفًا للتكنولوجيا المتطورة؛ حيث يضم عمالقة تكنولوجيا المعلومات مثل: جوجل وأبل وفيسبوك، وآلاف الشركات الناشئة في مجال تكنولوجيا المعلومات.
من مزارع الفاكهة إلى مركز التكنولوجيا العالمية
كان وادي سانتا كلارا، المعروف الآن باسم سيليكون فالي، وجهة مشهورة لمزارع الفاكهة؛ حيث اشتهر بإنتاجه الوفير من الكرز والكمثرى والمشمش. ولكن سرعان ما تغيرت مسيرة هذه المنطقة مع تأسيس جامعة ستانفورد عام 1891م من قبل ليلاند ستانفورد، قطب السكك الحديدية.
وبالطبع لعبت جامعة ستانفورد دورًا محوريًا في تحويل هذا الوادي إلى مركز للتكنولوجيا. ففي عام 1909م، استثمر ديفيد ستار جوردان؛ رئيس الجامعة، آنذاك في تطوير صمام أوديون، وهو اختراع ثوري مهد الطريق لثورة في المنتجات الكهربائية.
ويعد فريدريك تيرمان؛ أستاذ هندسة الكهرباء بجامعة ستانفورد، شخصية محورية أخرى في صعود المركز التكنولوجي العالمي. فقد سعى جاهدًا لتشجيع خريجي الجامعة على البقاء في المنطقة من خلال الاستثمار في شركات ناشئة، مثل: شركة Hewlett-Packard التي أسسها ويليام هيوليت ودايفيد باكارد.
الحرب العالمية الثانية
خلال الحرب العالمية الثانية، برز وادي السيليكون كمركز حيوي لتصنيع المعدات الكهربائية وأجهزة الراديو والرادارات، ما ساهم كثيرًا في الجهود الحربية للولايات المتحدة.
وبحلول الخمسينيات من القرن الماضي، شهد المركز التكنولوجي العالمي ازدهارًا ملحوظًا مع إنشاء منطقة صناعية جديدة ووصول شركة شبه موصلات رائدة، مهدت هذه التطورات الطريق لنمو هائل في قطاع التكنولوجيا، ليصبح سيليكون فالي مركزًا عالميًا للشركات المبتكرة وأفكار المستقبل.
البذرة الأولى لوادي السيليكون
في عام 1951م، أدرك فريدريك تيرمان؛ أستاذ الهندسة الكهربائية بجامعة ستانفورد، إمكانات المنطقة لتطوير تقنيات ثورية، وبالتعاون مع مدينة بالو ألتو، أسس “المنطقة الصناعية لجامعة ستانفورد”، وفرت هذه المساحة 660 فدانًا لمختبرات البحوث، والمكاتب، والمرافق الصناعية، لتصبح حجر الأساس لما نعرفه اليوم باسم سيليكون فالي.
وشهد عام 1955 وصول مختبر شوكلي لأشباه الموصلات إلى وادي سانتا كلارا، بقيادة ويليام شوكلي، أحد مخترعي الترانزستور، سعى شوكلي إلى استقطاب ألمع المهندسين، ومن بينهم جوردون مور وروبرت نوير.
الخلافات تؤدي إلى ثورة
لم يكن أسلوب “شوكلي” الإداري سهلًا، ما أدى إلى خلافات حادة مع فريقه، اختلف مور ونوير معه حول أفضل المواد لأشباه الموصلات، مدافعين عن السيليكون. بينما أصر شوكلي على الجرمانيوم، في عام 1957، غادر “الثمانية الخونة” بقيادة “مور” و”نوير” مختبر شوكلي؛ لتأسيس شركة فيرتشايلد لأشباه الموصلات.
ولادة الدائرة المتكاملة
بعد عام واحد فقط، حقق فريق فيرتشايلد بقيادة نوير إنجازًا هائلًا باختراعهم الدائرة المتكاملة (IC)، في نفس الوقت تقريبًا، اخترع جاك كيلبي من شركة تكساس إنسترومنتس نفس الاختراع على نحو مستقل. وتعد الدائرة المتكاملة، التي تمثل حجر الأساس للعصر الرقمي، أهم اختراع تكنولوجي في عصرنا الحديث.
مع ولادة الدائرة المتكاملة، ولد وادي السيليكون أيضًا، وسرعان ما تحولت المنطقة إلى مركز عالمي للابتكار والتكنولوجيا؛ حيث اجتمعت رواد الأعمال والموهوبون لتطوير أفكار ثورية تُشكل مستقبلنا.
من سباق الفضاء إلى مركز التكنولوجيا العالمي
في أواخر الخمسينيات، اشتعل سباق محموم بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لاحتلال القمر، وبفضل القمر الصناعي سبوتنيك، تقدم الاتحاد السوفيتي خطوة مبكرة في هذا السباق، ما دفع الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، إلى إنشاء وكالة ناسا ووكالة مشاريع البحوث المتقدمة الدفاعية (DARPA).
خصصت هاتان الوكالتان موارد هائلة لتطوير تقنيات جديدة، ما فتح الباب أمام فرص هائلة للشركات الناشئة في وادي السيليكون. وبحلول أوائل الستينيات، كانت وكالة مشاريع البحوث المتقدمة الدفاعية تمول أكثر من 70% من جميع أبحاث تكنولوجيا الكمبيوتر في الولايات المتحدة.
مركز تطوير التكنولوجيا العسكرية
استفادت العديد من شركات سيليكون فالي، مثل: فيرتشايلد لأشباه الموصلات، من هذه العقودات العسكرية، وتحولت من شركات هندسة كهربائية صغيرة إلى شركات عملاقة في مجال التكنولوجيا.
وخلال هذه المدة، صاغ جوردون مور ما يعرف الآن بقانون مور، الذي ينص على أن عدد الترانزستورات على الدائرة المتكاملة سيضاعف كل عامين.
وفي الستينيات، برز “سيليكون فالي” كقوة رائدة في مجال التكنولوجيا، وأدى سباق الفضاء والحرب الباردة إلى زيادة الطلب على الدوائر المتكاملة؛ حيث حصلت “ناسا” على 60% من احتياجاتها من هذه الدوائر من منطقة سانتا كلارا. وبحلول عام 1965، كان مجمع ستانفورد الصناعي يضم 40 شركة توظف أكثر من 11400 شخص.
أحداث بارزة في تاريخ وادي السيليكون
- عقدة ستانفورد تساهم في ولادة الإنترنت: في عام 1969م، لعبت جامعة ستانفورد دورًا محوريًا في تطور شبكة الإنترنت؛ حيث أسست إحدى العقد الأربع التي شكلت شبكة أربانيت، وهي شبكة سابقة للإنترنت تم تمويلها من وكالة مشاريع البحوث المتقدمة الدفاعية (DARPA).
- ولادة إنتل وشرارة ثورة المعالجات الدقيقة: في عام 1968، غادر كل من روبرت نوير وجوردون مور، شركة فيرتشايلد لأشباه الموصلات ليؤسسا شركة إنتل، التي أحدثت ثورة في عالم التكنولوجيا من خلال ابتكارها أول معالجات دقيقة في العالم بعد ثلاث سنوات فقط.
عوامل ازدهار وادي السيليكون
- التمويل الحكومي: لعب توفر التمويل السهل من الحكومة والجيش الأمريكي دورًا مهمًا في تحفيز الابتكار ونمو ثقافة ريادة الأعمال في وادي السيليكون.
- شركات رأس المال المخاطر: ظهرت شركتا رأس المال المخاطر، كلاينر بيركنز وسيكويا كابيتال، عام 1972م، لتلعبا دورًا حيويًا في تمويل الشركات الناشئة ودعم الأفكار الجديدة في مجال التكنولوجيا.
رمز للابتكار والتقدم التكنولوجي
يُعدّ وادي السيليكون، قصة نجاح استثنائية، حيث تحول من منطقة زراعية إلى مركز عالمي للتكنولوجيا خلال مدة زمنية قصيرة.
ويرجع هذا النجاح إلى مزيج من العوامل، بما في ذلك التمويل السخي من الحكومة والجيش، ووجود جامعة ستانفورد المرموقة، وظهور ثقافة ريادة الأعمال، ووجود شركات رأس المال المخاطر التي دعمت الشركات الناشئة.
هل ينحسر نجمه أم يبقى منارة للابتكار؟
يشهد سيليكون فالي، مهد التقنيات الحديثة، ظروفًا استثنائية تثير تساؤلات حول مستقبله، فهل انتهى عصره الذهبي، أم أنه سيظل مركزًا للابتكار؟
تحديات تواجه وادي السيليكون:
- تراجع حدة الازدهار: شهد القطاع التقني تباطؤًا ملحوظًا بسبب ارتفاع التضخم، وفقدان الثقة في شركات التكنولوجيا، وتداعيات جائحة كوفيد-19.
- هجرة المواهب: أدى تزايد العمل “عن بعد” إلى مغادرة العديد من العاملين في مجال التكنولوجيا لمنطقة سانتا كلارا، بحثًا عن فرص أفضل وأسعار معيشة مناسبة.
- ارتفاع تكاليف المعيشة: تعد الفجوة بين الأغنياء والفقراء في وادي السيليكون هائلة، ما يشكل عبئًا كبيرًا على ذوي الدخل المحدود، خاصة في ظل ارتفاع تكاليف السكن.
- تباطؤ الاستثمار: أدى التضخم إلى تراجع الاستثمارات في الشركات الناشئة. بينما لجأت شركات التكنولوجيا الكبرى إلى تسريح الموظفين وتجميد التوظيف.
- انهيار بنك وادي السيليكون: تسبب انهيار بنك وادي السيليكون، الذي كان يعد رمزًا مهمًا للمنطقة، في إعاقة تطوير الشركات الناشئة على المدى المتوسط إلى الطويل.
- فقدان الثقة: تسببت سلسلة من الأحداث، مثل: انهيار شركات ناشئة مبالغ بقيمتها، وأزمة العملات المشفرة، وسوء إدارة شركات التكنولوجيا الكبرى، في فقدان المستثمرين والجمهور الثقة بقطاع التكنولوجيا.
- مخاوف من الذكاء الاصطناعي: أثار إصدار برنامج الذكاء الاصطناعي “شات جي بي تي” مخاوف بشأن انتشار المحتوى المزيف، وتعطيل الوظائف، ما زاد من تشكك البعض في وعود التكنولوجيا.
آفاق جديدة
على الرغم من هذه التحديات، يملك وادي السيليكون مقومات قوية للبقاء مركزًا للابتكار:
- ثقافة ريادة الأعمال: يتمتع “سيليكون فالي” بثقافة ريادة أعمال فريدة ونظام بيئي داعم للشركات الناشئة، ما يشجع على ظهور أفكار جديدة واعدة.
- المواهب: لا تزال منطقة سانتا كلارا، موطنًا لأكبر تجمع من العقول المبدعة والخبراء في مجال التكنولوجيا في العالم.
- البنية التحتية: يمتلك “سيليكون فالي” بنية تحتية متطورة من الجامعات ومراكز البحوث والشركات الداعمة، تساهم في تسريع عملية الابتكار.
هل يندثر وادي السيليكون؟
على الرغم من هذه التحديات، يرى محللون أن “سيليكون فالي” يظل يتمتع بثقافة ريادة أعمال فريدة ونظام بيئي داعم للابتكار. وفيما قد يشهد نهاية دورة ازدهار، فمن غير المرجح أن ينهار تمامًا.
ووفقًا للبروفيسورة مارغريت أومارا؛ مؤلفة كتاب “الكود: وادي السيليكون وإعادة تشكيل أمريكا”، “قد تكون هذه نهاية حقبة بالنسبة لسيليكون فالي، ولكن من غير المحتمل أن تكون نهايته”.
ختامًا، يبقى وادي السيليكون رمزًا للابتكار والإبداع، ومصدر إلهام لرواد الأعمال والمبدعين في جميع أنحاء العالم.