يشير كتاب Start with Why للمؤلف الملهم سايمون سينك إلى حقيقة جوهرية غالبًا ما تغيب عن أذهان القادة والمؤسسات، وهي أن النجاح الحقيقي والقدرة على إلهام الآخرين لا ينبع من مجرد معرفة “ماذا” تفعل، بل من فهم عميق وواضح لـ “لماذا” تفعل ذلك.
في هذا الكتاب يضع “سينك” نصب عيني القارئ مفهومًا مبتكرًا أسماه “الدائرة الذهبية”، وهو نموذج بسيط لكنه ثوري يقلب المفاهيم التقليدية للتواصل والقيادة رأسًا على عقب، ويعزز فكرة أن الدافع الأسمى هو المحرك الحقيقي للسلوك البشري.
كتاب Start with Why
علاوة على ذلك يؤكد كتاب Start with Why أن الشركات والقادة العظماء، الذين أحدثوا فرقًا حقيقيًا في العالم، لم يبدأوا أبدًا بما يقدمونه من منتجات أو خدمات. بل بدأوا بقضيتهم الأساسية، أو إيمانهم الجوهري، أو هدفهم النبيل الذي يشكل الدافع وراء كل عمل.
وعلى صعيد آخر يوضح “سينك” أن القادة العاديين والشركات الفاشلة غالبًا ما يبدأون من الخارج إلى الداخل. أي من “ماذا” إلى “كيف” وصولًا إلى “لماذا”، أو يتجاهلون تمامًا “لماذا” التي هي أساس كل شيء.
وفي السياق ذاته يبرهن الكتاب على أن إدراك هذه الفلسفة وتطبيقها يمنح القادة القدرة على جذب المتابعين الأوفياء والموظفين المخلصين؛ لأنهم لا يشترون المنتج، بل يقتنعون بالفكرة والهدف الذي يمثله.

الدائرة الذهبية
تتألف “الدائرة الذهبية” من ثلاث دوائر متحدة المركز، تمثل كل منها مستوى مختلفًا من التفكير والتواصل. في قلب هذه الدوائر يكمن سؤال “لماذا؟”. الذي يمثل الهدف الأسمى أو القضية التي تدافع عنها الشركة أو القائد.
علاوة على ذلك تأتي الدائرة الوسطى، “كيف؟”، التي تجيب عن سؤال الطريقة أو الآلية التي يتم بها تحقيق “لماذا”. في حين تمثل الدائرة الخارجية “ماذا؟”. وهي المنتجات أو الخدمات الملموسة التي يتم تقديمها.
كما يبرز كتاب Start with Why أن سر الشركات الملهمة يكمن في ترتيب هذه الدوائر؛ حيث يبدأ التواصل من الداخل (لماذا) إلى الخارج (ماذا)، ما يوفر اتصالًا عاطفيًا عميقًا.
وبالإضافة إلى ذلك يقدم المؤلف مثالًا أيقونيًا لشركة أبل لتوضيح هذا المبدأ. فبدلًا من أن تعلن الشركة مواصفات منتجاتها (ماذا)، فإنها تبدأ برسالتها: “في كل ما نقوم به. نؤمن بالتفكير بشكل مختلف وتحدي الوضع الراهن”.
هذه الجملة الملهمة هي “لماذا” التي تحركها. بعدها تنتقل إلى “كيف” وهو “تصميم منتجات سهلة الاستخدام وجميلة”. لتصل أخيرًا إلى “ماذا” وهو “نصنع حواسب رائعة”.
هذا النهج يجعل المستهلك لا يشتري جهازًا إلكترونيًا فحسب، بل يشتري قصة، ورؤية، وفكرة يؤمن بها، وهو ما يفسر الولاء غير المسبوق لعلامة أبل التجارية.
مخاطبة العقل الباطن
يعود السبب الأساسي لأهمية “لماذا” إلى تأثيرها المباشر في الجزء من الدماغ البشري المسؤول عن اتخاذ القرارات السلوكية. ومن منطلق ذلك يوضح سينك في كتاب Start with Why أن “لماذا” تخاطب الجزء الحوفي من الدماغ، وهو المسؤول عن المشاعر والولاء والثقة. وبالتالي فهو صانع القرار الفعلي.
بينما “ماذا” و”كيف” تخاطبان القشرة المخية الحديثة، وهي المسؤولة عن التفكير المنطقي واللغة والتحليل. هذه التفرقة العصبية تفسر لماذا قد يتخذ الأفراد قرارات غير منطقية بناءً على شعورهم تجاه علامة تجارية أو قائد معين.
كذلك يعمق الكتاب فكرة أن إيصال الرسالة من “القلب إلى القلب” هو الأساس في جذب العملاء والموظفين المخلصين. فعندما يوضح القائد “لماذا” يؤدي عمله فإنه يجذب الأشخاص الذين يشاركونه نفس القيم والاعتقادات. بينما جذب العملاء الموالين لا يتم عبر المنتجات والأسعار، بل من خلال توليد مجتمع من المؤمنين الذين يدافعون عن نفس القضية.
هذا الولاء لا يتزعزع حتى في مواجهة المنافسة الشديدة. لأنه مبنٍ على أساس متين من الإيمان المشترك.
من التحفيز إلى الإلهام
يفرق سينك بشكلٍ جوهري بين التحفيز والإلهام. فالتحفيز، بحسب الكتاب، يعتمد على عوامل خارجية مثل: المال أو المكافآت أو الخوف، وهو ذو تأثير مؤقت. وفي المقابل يمثل الإلهام حالة داخلية، تنبع من فهم عميق لـ”لماذا” والاعتقاد بها. وهو ما يؤدي إلى سلوك مستدام ومدفوع ذاتيًا.
ويبرهن سينك على أن القائد الذي يلهم، لا يحتاج إلى حوافز خارجية لدفع فريقه، لأنهم يعملون بحماس من أجل قضية يؤمنون بها.
بينما قد تكون الحوافز المادية فعالة على المدى القصير، إلا أنها تفشل في بناء ولاء حقيقي ودائم. وعلى صعيد آخر يؤكد الكتاب أن القادة الذين يركزون على “لماذا” يمنحون موظفيهم شعورًا بالهدف والانتماء. وهو ما يجعلهم أكثر إنتاجية وابتكارًا ومشاركة. هذا الالتزام العاطفي يترجم إلى أداء استثنائي يتجاوز مجرد تأدية المهام.

“لماذا” كبوصلة شخصية
لا يقتصر مبدأ “الدائرة الذهبية” على عالم الأعمال والقيادة التنظيمية فحسب، بل يمتد ليشمل الحياة الشخصية. كما أن الفرد الذي يحدد “لماذا” يعيش، وما هو هدفه الأسمى، يكون لديه بوصلة واضحة توجه قراراته وأفعاله.
وبالإضافة إلى ذلك فإن تحديد هذه القضية الشخصية يساعد على تجاوز التحديات والصعوبات، لأن الدافع لا يكون خارجيًا، بل ينبع من قناعة داخلية راسخة.
من ناحية أخرى فإن فهم “لماذا” الشخصية يساعد على بناء علاقات أقوى وأكثر عمقًا، سواء على الصعيد المهني أو الاجتماعي. فعندما يتشارك الأشخاص في نفس القيم والأهداف، تتشكل بينهم رابطة قوية من الثقة والولاء.
وفي النهاية تلخص فلسفة سينك في أن تحديد “لماذا” هو الخطوة الأولى والأهم نحو تحقيق أي نجاح ذي معنى، سواء كان ذلك في قيادة فريق، أو بناء شركة، أو حتى في السعي لتحقيق أحلام شخصية. وعندما يكون “لماذا” واضحًا فإن “كيف” و”ماذا” يصبحان أكثر وضوحًا وسهولة في التحقيق.


