طرقت سوزان وجسيكي؛ السيدة الأولى للتكنولوجيا، أبواب عالم الإنترنت لتترك بصمة لا تُمحى. فبعد أن كانت جزءًا من فريق التأسيس لشركة عملاق البحث “جوجل”؛ حيث عملت كأول مدير تسويق لها، انتقلت لتترأس دفة أكبر منصة لمشاركة الفيديو في العالم، “يوتيوب”. تلك القفزة النوعية في مسيرتها المهنية والتي امتدت لأكثر من عقدين، كانت شاهدة على عبقرية إدارية قلّ نظيرها.
سوزان وجسيكي
علاوة على ذلك، فإن “وجسيكي” لم تكن مجرد وجه إداري لشركة يوتيوب؛ بل كانت صانعة قرارات إستراتيجية أسهمت في نمو المنصة بشكلٍ هائل؛ فبصيرتها الثاقبة دفعتها إلى اقتراح شراء يوتيوب من قبل جوجل في وقت مبكر، وهو ما أثبتت الأيام أنه قرار استثماري ناجح للغاية. كما أنها عملت على تطوير العديد من الميزات والخدمات التي جعلت من يوتيوب المنصة الأكثر شعبية لمشاركة الفيديو في العالم.
من ناحية أخرى، لم تقتصر إنجازات “وجسيكي” على المجال المهني فحسب؛ بل امتدت لتشمل إسهامات اجتماعية واقتصادية. فقد كانت نموذجًا يحتذى به للمرأة العاملة؛ حيث أثبتت أن المرأة قادرة على تحقيق أعلى المراتب في عالم الأعمال. كما أن ثروتها الطائلة، والتي قدرت بـ 765 مليون دولار في عام 2022، جعلت منها واحدة من أغنى النساء في العالم. بينما كانت في الوقت نفسه، ناشطة اجتماعية تدعم العديد من القضايا الإنسانية.

الحياة المبكرة والتعليم
وُلدت سوزان وجسيكي، في 5 يوليو 1968م، في سانتا كلارا بولاية كاليفورنيا. نشأت في أسرة مثقفة؛ حيث كانت والدتها صحفية ووالدها أستاذ فيزياء بجامعة ستانفورد المرموقة. هذه البيئة الحاضنة للعلوم والمعرفة أرست في وجدان سوزان حب الاستطلاع والمعرفة منذ نعومة أظفارها. ففي ظل جوار عالم الرياضيات الشهير جورج دانزيج، وتحت سقف جامعة ستانفورد، استنشقت سوزان هواء الإبداع والابتكار.
لم تكتفِ سوزان بالتعلم النظري؛ بل بدأت مبكرًا في استكشاف عالم الأعمال. ففي سن الحادية عشرة من عمرها، أطلقت مشروعها التجاري الأول ببيع “حبال التوابل” من باب إلى باب. وهو ما يدل على روح المبادرة و الرغبة في تحقيق الذات التي تميزها منذ الصغر.
رحلة أكاديمية متميزة
بعد تألقها في المدرسة الثانوية، التحقت “سوزان” بجامعة هارفارد العريقة؛ حيث درست التاريخ والأدب وتخرجت بامتياز عام 1990م. وعلى الرغم من تفوقها الأكاديمي ورغبتها في استكمال دراسات عليا في الاقتصاد؛ إلا أن فضولها دفعها لاكتشاف عالم التكنولوجيا الذي كان يشهد تطورات هائلة في تلك الفترة.
وعقب تخرجها من جامعة هارفارد، واصلت “سوزان” مسيرتها الأكاديمية وحصلت على درجة الماجستير في الاقتصاد من جامعة كاليفورنيا، سانتا كروز عام 1993م، ثم درجة الماجستير في إدارة الأعمال من كلية أندرسون لإدارة الأعمال بجامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس عام 1998م. هذه المؤهلات العلمية المتنوعة شكلت الأساس القوي لمسيرتها المهنية المستقبلية في عالم التكنولوجيا.
وبينما كانت “سوزان” تخطط لمستقبل أكاديمي واعد، اكتشفت شغفًا جديدًا بالتكنولوجيا. هذا التحول في مسارها المهني قادها إلى عالم الشركات الناشئة؛ حيث وجدت نفسها منجذبة إلى التحديات والفرص التي يوفرها هذا المجال المبتكر.
مسيرة سوزان وجسيكي المهنية
بدأت سوزان وجسيكي مسيرتها المهنية في عالم التكنولوجيا من خلال العمل في شركة إنتل؛ حيث اكتسبت خبرة في مجال التسويق. كما عملت كاستشارية إدارة في شركتي باين آند كومباني، ما أمدها بمهارات قيادية وإدارية قوية. هذه الخبرات المتنوعة شكلت الأساس لانطلاق مسيرتها الحافلة بالإنجازات في واحدة من أكبر شركات التكنولوجيا في العالم.
وفي عام 1998، لعبت “وجسيكي” دورًا محوريًا في تأسيس شركة جوجل؛ حيث استأجر مؤسسا الشركة، لاري بيج وسيرجي برين، مرآب منزلها ليكون المقر الأول للشركة الناشئة. هذا القرار البسيط شكل نقطة تحول في تاريخ جوجل ومسيرة وجسيكي. عملت وجسيكي كالموظفة رقم 16 في الشركة، وساهمت بشكلٍ كبيرٍ في بناء هويتها وبرامجها التسويقية الأولى.
صعود نجمة الإعلان في جوجل
لم تتوقف مساهمة “وجسيكي” عند هذا الحد؛ بل امتدت لتشمل تطوير العديد من المنتجات الإعلانية الرائدة في جوجل، مثل: أدسنس. وحازت على تقدير كبير من مؤسسي الشركة على هذا الإنجاز.
علاوة على ذلك، شغلت منصب نائب الرئيس الأول للإعلان والتجارة في جوجل؛ حيث أشرفت على مجموعة واسعة من المنتجات الإعلانية والتحليلية التي حققت نجاحًا باهرًا.
وفي عام 2006م، أظهرت “وجسيكي” حنكة إستراتيجية كبيرة عندما اقترحت شراء موقع يوتيوب، وهو موقع مشاركة الفيديو الناشئ الذي كان منافسًا قويًا لخدمة جوجل فيديو. وأثبت هذا الاستحواذ، الذي بلغت قيمته 1.65 مليار دولار، أنه أحد أهم القرارات في تاريخ جوجل؛ حيث أصبح يوتيوب منصة عالمية لمشاركة الفيديو وتوليد الإيرادات.
تولي قيادة يوتيوب
في فبراير 2014، تولت سوزان وجسيكي؛ منصب الرئيس التنفيذي لشركة يوتيوب. محققة بذلك إنجازًا جديدًا في مسيرتها المهنية الحافلة. ولاقت إشادة واسعة من مختلف الجهات؛ حيث وصفتها مجلة تايم بأنها “أهم شخص في مجال الإعلان” و”أقوى امرأة على الإنترنت”.
تحت قيادتها، حققت يوتيوب أرقامًا قياسية غير مسبوقة؛ حيث وصل عدد مستخدميها المسجلين إلى ملياري مستخدم شهريًا، وبلغت ساعات المشاهدة اليومية مليار ساعة. علاوة على ذلك، تمكنت يوتيوب من دفع أكثر من 30 مليار دولار للمبدعين والفنانين وشركات الإعلام بحلول عام 2021.
توسيع نطاق يوتيوب
عملت “وجسيكي” على توسيع نطاق يوتيوب وجعلها منصة عالمية متاحة بأكثر من 80 لغة في 100 دولة. كما ركزت على تطوير ميزات جديدة تلبي احتياجات المستخدمين المتنوعة، مثل: ميزات الألعاب والموسيقى.
وخلال فترة توليها المنصب، تمكنت يوتيوب من تطوير 10 أشكال جديدة لتحقيق الدخل للمبدعين. وإطلاق خدمات الاشتراك المجانية من الإعلانات مثل: YouTube Premium و YouTube TV. كما شهدت “يوتيوب” نجاحًا كبيرًا مع إطلاق خدمة الفيديوهات القصيرة YouTube Shorts، والتي تجاوزت 50 مليار مشاهدة يومية في فبراير 2023.
مواجهة التحديات والانتقادات
على الرغم من الإنجازات الكبيرة التي حققتها يوتيوب تحت قيادة “وجسيكي”؛ إلا أنها واجهت العديد من التحديات والانتقادات. فمن جهة، تعرضت يوتيوب لانتقادات بسبب سياساتها المتعلقة بمحتوى الكراهية والتطرف؛ حيث اتهمت بتطبيق هذه السياسات بشكلٍ غير متسق وتفضيل بعض منشئي المحتوى على الآخرين.
ومن جهة أخرى، واجهت يوتيوب تحديات قانونية بسبب مخاوف تتعلق بحقوق النشر؛ حيث اعتبرت بعض القوانين الجديدة، مثل: المادة 13 في توجيه حقوق التأليف والنشر في الاتحاد الأوروبي، تهديدًا لقدرة منشئي المحتوى على مشاركة أعمالهم.

الاستقالة من المنصب
ورغم التحديات، أكدت “وجسيكي” أهمية المحتوى التعليمي في يوتيوب، وأطلقت مبادرة YouTube Learning لدعم المبدعين الذين ينتجون محتوى تعليمي. وفي فبراير 2023، أعلنت “وجسيكي” عن استقالتها من منصب الرئيس التنفيذي لشبكة “يوتيوب”، مشيرة إلى رغبتها في التركيز على أسرتها وصحتها ومشاريعها الشخصية.
في النهاية، تعد سوزان وجسيكي واحدة من أبرز الشخصيات التي ساهمت في تشكيل عالم التكنولوجيا الحديث. فقد بدأت مسيرتها كموظفة بسيطة في شركة ناشئة، وانتهت بها القصة لتترأس واحدة من أكبر الشركات الرقمية في العالم. وأثبتت خلال مسيرتها المهنية الطويلة أنها شخصية متعددة المواهب، قادرة على الجمع بين الإبداع والقيادة الاستراتيجية.
وبالطبع، فإن قصة سوزان وجسيكي هي قصة إلهام للكثيرين؛ فهي تظهر أن الإصرار والعمل الجاد والرؤية الثاقبة يمكن أن تحقق أعظم الإنجازات. كما أنها تسلط الضوء على أهمية المرأة في عالم الأعمال، وتثبت أن المرأة قادرة على تحقيق النجاح في أي مجال تختاره.