لم يعد الذكاء الاصطناعي “AI” اليوم مجالًا تقنيًا ترفيهيًا لمجموعة من الباحثين فقط، بل صار قطاعًا رياديًا نابضًا بالفرص الاستثمارية، ومحرّكًا للاقتصاديات الوطنية والعالمية والنجاحات الضخمة المتتالية التي حققها عدد من الشركات الناشئة في هذا المجال، كما أصبح حديث دوائر التمويل والاستثمار في العالم.
وقد أسعدني تلبية دعوة جامعة التكنولوجيا بالبحرين “UTB” للمشاركة في مؤتمرها الدولي للابتكارات المستدامة في الإدارة في عصر التحول الرقمي “SIMDTE” الذي عقد في المنامة، مؤخرًا؛ لإلقاء محاضرة اخترت لها عنوان: “الرحلة من ريادة الأعمال التكنولوجية إلى الذكاء الاصطناعي”، استعرضت فيها بإيجاز كيفية انتقال ريادة الأعمال لتكون محرك التطور في تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
3 أسباب رئيسة
وخلال المحاضرة، جاوبت على سؤال مفاده: لماذا ريادة الأعمال في الذكاء الاصطناعي مهمة الآن؟
وقد حددت ثلاثة أسباب رئيسة:
الأول: قدرتها على توسيع الاستثمارات؛ فشركات الذكاء الاصطناعي تجذب جزءًا متزايدًا من تدفقات رأس المال الاستثماري العالمي، كما شهدت قفزة تمويلية كبيرة في السنوات الأخيرة.
الثاني: تأثيرها “المضاعف” الإنتاجي الواسع. لقدرة الذكاء الاصطناعي على رفع الإنتاجية على مستوى القطاعات. ومن ثم الإسهام في نمو الناتج المحلي الإجمالي على المدى المتوسط والطويل.
الثالث: قدرتها على ابتكار تطبيقات عمودية وافقية متعددة. من الرعاية الصحية والزراعة إلى التمويل والطاقة واللوجستيات. فكل صناعة قابلة لإعادة اختراع جزئي باستخدام حلول “AI” متخصصة. ما يفتح مجالات ريادية متنوّعة ومربحة.
ما علاقة مراكز تطوير الذكاء الاصطناعي في العالم بالمنظومات الوطنية للشركات الناشئة؟
أوضحت الدراسات الأخيرة. الارتباط شبه العضوي بين أهم مراكز تطوير الذكاء الاصطناعي في العالم والمنظومات الوطنية للشركات الناشئة. فالمراكز الأبرز في استقطاب مؤسسي الشركات الناشئة ورأس المال والمواهب. تتمتع ببيئة تنظيمية داعمة.
ووفقًا لترتيب حالة الذكاء الاصطناعي في العالم عام 2024. يتربع وادي السيليكون بسان فرانسيسكو على المركز العالمي الأكثر تأثيرًا في تمويل وتأسيس شركات “AI” الكبرى. والمختبرات البحثية. والشركات الضخمة، والبنية التحتية الااستثماريّة القوية. وشبكات ومواهب تقنية.
وعلى صعيد المدن. تتربع نيويورك على عرش المدن الأكثر قوة في تطبيقات “AI” لقطاعات المالية. والإعلام والتجارة الإلكترونية. حيث تجمع بين رأس المال والأسواق الكبرى.
وتأتي مدينتا بكين، وشنغهاي بالصين على رأس نظام بيئي سريع النمو بتركيز قوي على الذكاء الاصطناعي التجاري والبنية التحتية الحاسوبية والبيانات الكبيرة، تليهما لندن، عاصمة أوروبا للـ”AI” في كثير من التصنيفات؛ حيث تتميّز بترابط مع البنوك الكبرى والقطاع المالي، مع خبرات بحثية أكاديمية قوية، تليها مدينة تورونتو الكندية؛ مقر مراكز أبحاث رائدة ومواهب أكاديمية ساهمت في ظهور شركات متخصصة جدًا في تقنيات التعلم العميق ونماذج اللغة.
وتشمل القائمة دولة الإمارات التي تحضن الآن واحدة من أكبر برامج الذكاء الاصطناعي الحكومية في العالم.
ويختلف ترتيب المدن بحسب مقياس التمويل، وعدد الشركات، والقيمة السوقية، وجودة المواهب، أو التركيز القطاعي؛ إذ أجمعت كل التقارير الحديثة على الأثر الاقتصادي الهائل لريادة الأعمال في “AI” ودورها المتعاظم الذي ينعكس في ثلاثة توجهات:
– الأول: الإسراع بتدفقات رؤوس المال والاستثمارات؛ ما يزيد من قيمة الأسواق ويخلق فرص توظيف متقدمة.
– الثاني: رفع الإنتاجية والنمو؛ إذ تشير تقديرات دراسات “ماكينزي” ومنظمات دولية متخصصة إلى أن “AI” يمكن أن يضيف تريليونات للدخل العالمي إذا ما تم تبنيه بفاعلية في الأعمال، كما يُتوقع تأثير متباين جغرافيًا قد يعزّز مراكز المدن الكبرى.
– الثالث: توفير الوظائف، والتحوّل المهني؛ ففي الوقت الذي تؤثر فيه الأتمتة على وظائف روتينية؛ فإنّ ريادة الأعمال في “AI” تخلق وظائف متقدمة كمهندسي بيانات، ومهندسي نماذج، وخبراء أخلاقيات البيانات. كما تفتح أسواق خدمة جديدة، ومنظمات؛ مثل “OECD” والتي درست كيفية مساهمة التكنولوجيات؛ مثل “GenAI” في معالجة نقائص القوة العاملة وزيادة الإنتاجية الإقليمية.
دور الدولة في مجال الذكاء الاصطناعي
كذلك ثمة نقطة جوهرية تركز عليها تقارير تقييم التجارب الحالية لدعم ريادة الأعمال في “AI”. وهي الدور الجوهري للدولة في مجال الذكاء الاصطناعي. فالدولة شريك محوري في نمو ريادة الأعمال في الذكاء الاصطناعي. إذ لا يمكن لهذا القطاع أن يزدهر بجهود السوق الحر أو الشركات الخاصة فقط. بل أيضًا نتيجة لتفاعل السياسات الحكومية، والاستثمار في البحث والتطوير. وتوفير بيئة تنظيمية محفزة؛ مثل نجاح “وادي السيليكون، ولندن، وبكين. لوضعها وتنفيذها للسياسات والإستراتيجيات الوطنية للذكاء الاصطناعي. وتوجيه الرؤى الاقتصادية الوطنية نحو هذا المجال.
ومن الأمثلة على ذلك:
إستراتيجية الذكاء الاصطناعي الوطنية في المملكة المتحدة “UK AI Strategy” : تركز على جعل بريطانيا مركزًا عالميًا للأبحاث والتطبيقات التجارية.
خطة الصين “الجيل الجديد من الذكاء الاصطناعي”: تهدف إلى جعلها الرائدة عالميًا بحلول 2030.
المبادرة الوطنية الـ”National AI Initiative Act” :
أقرتها الولايات المتحدة بهدف تنظيم التنسيق بين الوكالات الحكومية والقطاع الخاص في تطوير وتطبيق الذكاء الاصطناعي.
البيئة التنظيمية والأخلاقية
والدولة مسئولة عن وضع البيئة التنظيمية والأخلاقية، ووضع أطر تنظيمية مرنة تسمح بالابتكار، مع الحفاظ على الخصوصية وحماية البيانات. كما تتبني مبادئ حوكمة الذكاء الاصطناعي لتوجيه الاستخدام المسؤول للبيانات والخوارزميات، واعتماد سياسات تشجع البيانات المفتوحة والابتكار الموجّه نحو المصلحة العامة.
كما أن الدولة هي صاحبة اليد العليا في الاستثمار في البحث والتطوير والبنية التحتية التقنية. وتمويل المراكز البحثية وحاضنات الابتكار المتخصصة في الذكاء الاصطناعي. ودعم منصات الحوسبة السحابية ومراكز البيانات التي تمكّن الشركات الناشئة من اختبار حلولها دون تكلفة عالية. وإنشاء مختبرات الذكاء الاصطناعي الوطنية؛ مثل “Turing Institute” في المملكة المتحدة و”CIFAR AI Institutes” في كندا. والتي تعمل كمحركات للابتكار والتعاون الأكاديمي-الصناعي.
وأخيرًا الدولة هي المحرك الأول لتمويل الشركات الناشئة. وبرامج الحاضنات؛ من خلال برامج التمويل الأولي، والمنح الحكومية لدعم المراحل المبكرة من الشركات الناشئة.
ريادة الأعمال في الذكاء الاصطناعي
كذلك تمثل ريادة الأعمال في الذكاء الاصطناعي فرصة اقتصادية وإستراتيجية هائلة أمام دولنا العربية؛ ما يتطلب تقييم منظمات ريادة الأعمال الحالية. وسبل توفير التمويل وجذب المواهب. ووضع سياسات عامة ذكية لدعم التحوّل الذكي المنتج والمستدام. وإنشاء مراكز لتمركز الشركات الناشئة في الذكاء الاصطناعي العالمية توفّر دروسًا ونماذج يمكن للدول العربية الاستلهام منها مع تكييفها للسياق المحلي.
في نهاية المطاف لا يعتمد نجاح ريادة الأعمال في مجال الذكاء الاصطناعي فقط على المبدعين والمستثمرين. بل أيضًا على بيئة وطنية متكاملة توفرها الدولة. وكلما كانت السياسات أكثر وضوحًا. والتمويل أكثر استدامة، والبيئة التنظيمية أكثر انفتاحًا. زادت قدرة الدولة على تحويل الذكاء الاصطناعي إلى قاطرة للنمو الاقتصادي وفرص عمل مبتكرة.



