رمضان كان فرصة، لا لقراءة القرآن فقط، بل للتدبّر فيه كمنهجٍ للحياة.
في هذا المقال، أتأمل معكم خمس مفاهيم قرآنية؛ لتستشعر معانيها في رحلتك الريادية، من الفكرة إلى الأثر.
1. الفكرة: الإلهام القلبي
في مسيرة كل ريادي صادق يسعى لنفع مجتمعه لحظة يصعب تفسيرها بالعقل وحده: فكرة تولد فجأة، وسبل تُفتح من حيث لا يُحتسب.
قد تكون هذه الفكرة إلهامًا قلبيًا، يسكن القلب الروحي لا العضوي؛ ذلك القلب الذي إذا صفا صار موضع إشارات، وفهم، وتوفيق. فقد أخبرنا الله أنه أوحى إلى من ليسوا أنبياء “وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه” (القصص: 7).
فيما قد تكون الفكرة التي تسكنك إشارة من الله. يهيّئك بها لبناء مشروع فيه خير للناس، خاصة إذا ما سَهَّل لك السبل لتحقيقها، فقد تكون هي رسالتك.
2. مفهوم الاستخلاف: العلم طريق التمكين
حين قال الله تعالى: “إني جاعل في الأرض خليفة” (البقرة: 30) لم يكن ذلك تكريمًا مجرّدًا. بل مسؤولية مبنية على علم “وعلّم آدم الأسماء كلها” (البقرة: 31).
كما أنه في الآية 61 من سورة هود يقول الله تعالى “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها”؛ فالريادة تمكين، يتولاها من يملك العلم والرؤية والنية للإعمار.
بينما حين تحمل فكرة ريادية تذكّر أنك لا تطلب تمكينًا لنفسك فقط، بل لمشروع يعمّر الأرض وينفع الناس. وفي الحديث النبوي الشريف: “إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها”، وذلك تأكيد أن العمل وزرع الأثر لا يتوقفان حتى قيام الساعة.
3. المشكلة والحل: سنّة الثنائية في الكون
الفكرة الريادية تُولد من وجود فجوة، أو مشكلة، أو حاجة غير مشبعة، لكنها لا تقف عند التشخيص، بل تبحث عن حل مبتكر.
في القرآن نجد أن الله خلق كل شيء بزوجية، لا فردية: “ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون” (الذاريات: 49). وهذه الآية لا تتحدث فقط عن الذكر والأنثى، بل تشير إلى مبدأ أوسع يشمل كل مظاهر الحياة: السؤال والجواب، والتحدي والحل، والحاجة والاستجابة.
فالكون قائم على التوازن “والسماء رفعها ووضع الميزان” (الرحمن: 7). فطالما أن هناك مشكلة الحل موجود في مكانٍ ما.
والمبدع الحقيقي هو من يُبصر الحل الذي يستجيب للمشكلة أو الحاجة، ويستخرجه للناس في شكل منتج، أو خدمة، أو تجربة. مع إيجاد التوازن؛ فلا ينفع الناس على حساب الإضرار بالبيئة مثلًا.
4. مفهوم السبق: الريادة في الابتكار والنفع
قال تعالى “والسابقون السابقون. أولئك المقرّبون” (الواقعة: 10-11). ووصف أنبياءه بقوله “إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا” (الأنبياء: 90). فالريادة تتطلب مبادرة لا تقف عند حدود التكرار، بل تفتح بابًا جديدًا: بحل مبتكر، وقصد نافع، ويسبق بعلمٍ يستشرف الحاجة. فالسبق ليس في التوقيت فقط، بل في القصد، والأثر، والتأثير.
ولخّص ابن القيم هذا المعنى بقوله: “أفضل الأعمال: العمل الذي ينفع أكثر، ويكون فيه إخلاص أعظم، ويُرضي الله أسرع”.
5. الغاية العليا والدنيا: هل يثمر مشروعك؟
القرآن حين وصف الجنة امتلأت الآيات بذكر الفاكهة “وفاكهة مما يتخيرون” (الواقعة: 20) فيها فاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة (الواقعة: 32).
والفواكه رمز للنعيم والنمو، والجمال والاختيار. فكأنها تُشبه أصحاب الهمم العالية الذين يسعون للمعنى، وللتأثير، والقرب من الله، وترك الأثر. فلا يرضون بالاعتيادي، بل يبحثون عن “الأفضل”، حتى لو تطلّب صبرًا أو مجاهدة.
بينما أصحاب الغايات الأرضية فقط يشبهون الغذاء الضروري المرتبط بالبقاء، دون طموح للنمو أو السمو.. فكأنهم يشبهون بني إسرائيل حين طلبوا البصل والعدس “أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير” (البقرة: 61).
فهم لا يرون في الحياة إلا لقمة العيش، أو الراتب، أو الاستقرار فقط ولا يسعون للارتقاء الروحي أو التطوير الذاتي أو إحداث أثر أوسع، بل يكتفون بالمعتاد، ولا يطلب “الذي هو خير”، بل يستبدله بما هو “أدنى”. هذه ليست مقارنة غذائية بل رمزية وجودية.
هل أنت رائد أعمال يطمح للنمو والإثمار، أم تكتفي بما هو متاح وسهل ومعتاد عليه؟ الريادة غايتها أثر لا مجرد إنتاج، وثمرتها لا تُقاس بالحجم فقط، بل باستمرارية الأثر ونموه وعلو مقصده. كما لا تكمن الريادة في ظاهر الفكرة ولا حجم الإنجاز، بل في جوهر النية، وصدق المقصد، واستمرارية الأثر.
ومن إلهام القلب إلى حل المشكلة، ومن سبق النفع إلى استخلاف التمكين، ومن الغاية العليا إلى الثمرة، تتشكل ملامح مشروع يحمل في تفاصيله معنى ورسالة. فكل فكرة قد تكون بداية استخلاف، وكل عمل خالص قد يكون بابًا للتمكين.
فاسأل نفسك: هل مشروعي يقرّبني؟ هل به بصيرة في الفكرة، ونفع في الأثر، وصدق في النية؟فالريادة ليست فقط لمن يبدع في السوق، بل لمن يصدق في الطريق.