في ظل التطورات المتسارعة في عالم الاقتصاد بات الاستثمار الناجح هدفًا يسعى إليه الكثيرون. فالرغبة في تحقيق الاستقلال المالي وتنمية الثروة تدفع الأفراد إلى البحث عن فرص استثمارية واعدة. لكن هذا المسار محفوف بالتحديات، فالعالم الاستثماري ليس مجرد مجموعة من الأرقام والتحليلات، بل هو ساحة تتفاعل فيها العقلية البشرية مع المعطيات الاقتصادية.
ورغم أن الاستثمار الناجح يستند إلى أسس علمية وقواعد اقتصادية فإن العامل النفسي يلعب دورًا حاسمًا في توجيه قرارات المستثمرين. فالتحيزات العقلية التي تتأصل في تفكيرنا قد تشكل عقبات حقيقية تعوق تحقيق الأهداف الاستثمارية. هذه التحيزات، التي تبدو في بعض الأحيان غير ذات أهمية، قد تكون في الواقع القاتل الصامت للعديد من الاستثمارات الناجحة.
ويعد التحيز نحو المألوف من أبرز التحيزات التي قد تعوق الاستثمار الناجح. حيث يميل العديد من المستثمرين إلى البقاء ضمن ما يعرفونه، والابتعاد عن المغامرات الجديدة؛ ما يقلل من فرص اكتشاف استثمارات قد تكون مربحة. وبالإضافة إلى ذلك هناك تحيز التفاؤل، الذي يدفع المستثمرين إلى الإفراط في الثقة بقدراتهم ومعرفتهم بالسوق، وذلك ربما يقودهم إلى اتخاذ قرارات خاطئة في ظل التقلبات السوقية.
ومن بين التحيزات الأخرى أمام الاستثمار الناجح تحيز التثبيت. إذ يتمسك المستثمرون بمعلومات محددة دون النظر إلى الصورة الكاملة؛ ما يجعلهم عرضة لاتخاذ قرارات غير مدروسة. وكذلك فإن تحيز التوفر يؤدي دورًا مهمًا؛ حيث يعتمد المستثمرون في قراراتهم على المعلومات المتاحة لهم بسهولة، بغض النظر عن مدى دقتها أو شمولها.
تحيزات تعوق نجاحك الاستثماري
التحيزات المعرفية هي تلك الأفكار المسبقة والعادات العقلية التي تؤثر في طريقة تفكيرنا واتخاذنا للقرارات، بما في ذلك قرارات الاستثمار. هذه التحيزات يمكن أن تؤدي بنا إلى اتخاذ قرارات غير عقلانية؛ ما يعرض استثماراتنا للخطر.
فيما يلي 5 من أهم هذه التحيزات وكيفية تجنبها:
1. الثقة الزائدة
يعد الاستثمار الناجح مجالًا يتطلب مزيجًا من المعرفة، والتحليل، والانضباط العاطفي. ولكن توجد عقبة نفسية شائعة تواجه الكثير من المستثمرين، وهي الثقة الزائدة بقدراتهم. ففي ذروة الأداء الجيد للسوق يعتقد المستثمر بأنه اكتشف “الصيغة السحرية” للنجاح. هذه الثقة الزائدة، التي غالبًا ما تكون مبنية على نجاحات مؤقتة، تصبح مدمرة للمحفظة الاستثمارية على المدى الطويل.
وتتعدد الأسباب التي تؤدي إلى الثقة الزائدة لدى المستثمرين. فمن جهة قد يكون وصول المستثمر إلى كمية كبيرة من المعلومات دون الخبرة الكافية لتقييمها بشكل صحيح سببًا في هذا التحيز. ومن جهة أخرى فإن المشاركة النشطة في عملية التداول، والتي أصبحت سهلة للغاية بفضل التطبيقات التكنولوجية، تعطي المستثمر شعورًا زائفًا بالسيطرة على السوق. وبالإضافة إلى ذلك فإن النجاحات المتتالية التي يحققها المستثمر تعزز ثقته بنفسه بشكل مفرط.
2. تأثير التخلص
يواجه المستثمرون، مثلهم مثل أي شخص آخر، مجموعة من التحيزات السلوكية التي تؤثر في قراراتهم. أحد هذه التحيزات، والذي يحمل اسم “تأثير التخلص”، هو ميلنا الطبيعي لتجنب الألم العاطفي الناتج عن الخسائر المالية. فبدلًا من اتخاذ قرارات استثمارية منطقية مبنية على التحليل نجد أنفسنا نتمسك باستثماراتنا الخاسرة أطول ما ينبغي، آملين في استعادة الأموال المفقودة.
وفي الوقت نفسه نميل إلى بيع استثماراتنا الرابحة بسرعة، مدفوعين برغبتنا في تحقيق مكاسب فورية وتجنب المخاطرة بفقدان الأرباح المحققة.
هذا السلوك، الذي يبدو منطقيًا في البداية، له عواقب وخيمة على أداء المحفظة الاستثمارية على المدى الطويل. فالبحث العلمي يظهر أن الأسهم التي تحقق أداء جيدًا تميل إلى مواصلة الأداء الجيد في المستقبل، والعكس صحيح بالنسبة للأسهم التي تحقق أداء سيئًا. وبالتالي فإن التمسك بالخاسرين والبيع السريع للرابحين يعكس تمامًا الاستراتيجية المثلى لتحقيق عوائد مرتفعة.
وبالإضافة إلى ذلك فإن تكرار هذا السلوك يؤدي إلى زيادة تكاليف التداول؛ ما يقلل من العوائد الإجمالية للمستثمر.
3. تحيز التأكيد والتنافر المعرفي
في عالم الاستثمار الناجح؛ حيث تتخذ القرارات بناءً على معلومات وتحليلات، قد يبدو أن العقلانية هي السمة الغالبة. إلا أن الحقيقة تكمن في أننا كبشر نتعرض لتأثير مجموعة من التحيزات العقلية التي تشوه رؤيتنا للواقع. أحد هذه التحيزات”تحيز التأكيد”، وهو ميلنا الطبيعي للبحث عن المعلومات التي تؤكد معتقداتنا القائمة وتجاهل أي معلومات تتناقض معها.
مثلًا: إذا كنت مقتنعًا بأن شركة ما ستحقق أداءً جيدًا تميل إلى البحث عن الأخبار الإيجابية عنها وتجاهل الأخبار السلبية. ويترافق هذا التحيز مع “التنافر المعرفي”، وهو ميلنا لتذكر النجاحات ونسيان الفشل؛ ما يعزز ثقتنا الزائدة بقدراتنا الاستثمارية. تلك التحيزات مجتمعة تنقل لنا صورة مشوهة للواقع، وهذا يجعلنا نتخذ قرارات استثمارية غير رشيدة.
4. تحيز التعلق
تحيز آخر يؤثر في قراراتنا الاستثمارية هو “تحيز التعلق”. فبعد شراء سهم بسعر معين نصبح مرتبطين عاطفيًا بهذا السعر، ونعتبره قيمة عادلة للسهم. وعندما ينخفض سعر السهم نجد صعوبة في بيعه، آملين في استعادة السعر الأصلي.
هذا التحيز يمنعنا من اتخاذ قرارات بيع عقلانية، حتى لو كان السعر الحالي للسهم يعكس تقييمًا أكثر دقة للشركة.
5. تحيز الحداثة
وأخيرًا يؤثر “تحيز الحداثة” في طريقة تفكيرنا حول الاستثمار. فبدلًا من النظر إلى الأداء التاريخي للشركات والأسواق على المدى الطويل نميل إلى التركيز على الأحداث الأخيرة. وإذا كانت الأسواق ترتفع فإننا نعتقد أن هذا الارتفاع سوف يستمر إلى الأبد، ونشتري الأسهم بأسعار مرتفعة. والعكس صحيح: إذا كانت الأسواق تتراجع فإننا نفقد الثقة ونبيع أسهمنا بأسعار منخفضة. هذا السلوك يؤدي إلى ما يعرف بـ “شراء القمة وبيع القاع”، وهو يؤدي إلى خسائر.
بشكلٍ عام يمثل الاستثمار الناجح رحلة مثيرة تتطلب مزيجًا من المعرفة، والتحليل، والانضباط العاطفي. ومع ذلك فإن العقل البشري ليس خاليًا من التحيزات التي يمكن أن تشوه رؤيتنا وتؤثر في قراراتنا الاستثمارية. ومن الثقة الزائدة التي تدفعنا إلى المغامرة بشكل مفرط، وتأثير التخلص الذي يمنعنا من قطع الخسائر، وصولًا إلى تحيزات التأكيد والتعلق والحداثة التي تشوه إدراكنا للواقع، فإن هذه العوامل النفسية يمكن أن تكون عائقًا كبيرًا أمام تحقيق النجاح الاستثماري.