في خضم التحولات الجذرية التي يشهدها العالم الاقتصادي والاجتماعي، برزت مهارات التفاوض الناجح كأحد أهم العوامل المؤثرة في تحقيق النجاح على المستويات الفردية والمؤسساتية. فمع اشتداد المنافسة العالمية، باتت القدرة على التفاوض بفعالية عنصرًا حاسمًا في تحقيق الأهداف المرجوة.
كما أكدت دراسة أوروبية صادرة عن معهد التنمية الإدارية السويسري (IMD) التي أشارت إلى أن 75% من القادة يعتبرون التفاوض عاملًا حاسمًا في تحقيق أهداف العمل.
أضف إلى ذلك، أن القدرة على تحقيق التوازن بين المصالح المتباينة تُعد مفتاحًا لبناء علاقات طويلة الأمد مع الشركاء والعملاء. ما يعزز من استدامة الأعمال ويرفع معدلات النمو. من ناحية أخرى، تمتد أهمية مهارات التفاوض الناجح لتشمل تحسين أداء الفرق داخل المؤسسات؛ حيث أظهرت دراسة لجامعة أمستردام أن 62% من الموظفين الذين تلقوا تدريبًا متخصصًا في التفاوض شهدوا زيادة في إنتاجيتهم بنسبة 30%.
في حين أن بعض الأفراد يعتبرون التفاوض مهارة فطرية، تؤكد الأبحاث أن التدريب والتطوير المستمران يلعبان دورًا حاسمًا في تحسين الكفاءة التفاوضية. ووفقًا لتقرير صادر عن الاتحاد الأوروبي للتطوير المهني، فإن المؤسسات التي تستثمر في تدريب موظفيها على مهارات التفاوض الناجح تحقق زيادة في عائداتها بنسبة تصل إلى 18%. كما أن هذه المهارات تمكن الأفراد من فهم السياقات الثقافية المختلفة. ما يعزز قدرتهم على بناء جسور التواصل الفعال مع شركاء من خلفيات متنوعة.
مهارات التفاوض الناجح
ويتطلب النجاح في التفاوض التعامل مع المواقف المعقدة بمرونة وذكاء. فبينما تركز بعض الأساليب على بناء الحجج والإقناع، تعتمد أخرى على التعاون واستكشاف الحلول المبتكرة. ومن الضروري الإشارة إلى أن استخدام البيانات والإحصائيات يعزز من مصداقية الأطراف ويزيد من فرص الوصول إلى اتفاقيات مرضية. ووفقًا لمسح أجري في ألمانيا، فإن 85% من المدراء يرون أن التفاوض المبني على الحقائق يؤدي إلى قرارات أكثر فاعلية مقارنة بالاعتماد على الحدس فقط.
كذلك، تمتد أهمية مهارات التفاوض الناجح لتشمل مجالات أخرى خارج نطاق الأعمال؛ مثل: السياسة والتعليم والحياة اليومية. فالتفاوض يساعد الأفراد على حل النزاعات بطريقة بناءة والوصول إلى حلول تحقق التوازن بين المصالح. وأكدت دراسة من جامعة كولونيا أن الأشخاص الذين يمتلكون مهارات تفاوض متقدمة يتمتعون بفرص أكبر للنجاح في حياتهم الشخصية والمهنية بنسبة تصل إلى 40 %؛ لذلك، من الضروري الاستثمار في تطوير هذه المهارات لتحقيق تأثير إيجابي مستدام في جميع جوانب الحياة.
النزاعات تلتهم وقت المديرين التنفيذيين
يشير تقرير حديث صادر عن شركة كي بي إم جي إلى أن النزاعات تلتهم حصة كبيرة من وقت المديرين التنفيذيين؛ حيث تصل النسبة إلى ما بين 30% و50% من إجمالي ساعات عملهم. هذه النسبة المرتفعة تكشف عن تحدٍ كبير تواجهه الشركات في عصرنا الحالي؛ حيث تؤثر النزاعات سلبًا على الإنتاجية، وتعيق تحقيق الأهداف، وتؤدي إلى تدهور بيئة العمل.
علاوة على ذلك، فإن الوقت الذي يقضيه المديرون التنفيذيون في إدارة النزاعات يمثل خسارة فادحة للشركات. فبدلًا من التركيز على استراتيجيات النمو وتطوير الأعمال، يضطرون إلى إنفاق وقت طويل في حل المشاكل والخلافات التي تنشأ بين الموظفين أو بين الإدارات المختلفة. كما أن هذه النزاعات تؤدي إلى تدهور الروح المعنوية للموظفين، وتزيد من معدلات التغيب والانسحاب. ما يؤثر سلبًا على سمعة الشركة وجاذبيتها للمواهب.
مهارات التفاوض الصعبة
لطالما كان الحديث عن مهارات التفاوض يثير اهتمام الكثيرين، خاصة في عالم الأعمال؛ حيث تعد هذه المهارات مفتاحًا لتحقيق الصفقات الناجحة وبناء العلاقات الثابتة. ولكن ما هي تلك المهارات الصعبة التي لا بد من إتقانها لتحقيق التفوق في عالم المفاوضات؟
1. باتنة
تعد “باتنة” أو “Best Alternative To a Negotiated Agreement” من أهم مفاهيم التفاوض. وهي ببساطة أفضل خيار لديك إذا فشلت المفاوضات. الإجراء هنا واضح، حدد بدائل قوية واستعد للابتعاد عن الطاولة إذا لم تتمكن من الوصول إلى اتفاق يخدم مصالحك. هذه الاستراتيجية تمنحك قوة أكبر في المفاوضات وتجعلك أكثر ثقة في موقفك.
2. التفاوض على العملية
لا يقتصر التفاوض على المحتوى فقط؛ بل يشمل أيضًا عملية التفاوض نفسها. هنا يأتي دور التفاوض على العملية؛ حيث يتم الاتفاق مسبقًا على الجداول الزمنية، والأدوار التي سيلعبها كل طرف، وطرق اتخاذ القرار. هذا الهيكل الواضح يضمن سير المفاوضات بسلاسة ويساعد على تجنب الخلافات غير الضرورية.
3. بناء علاقة
لا شك أن بناء علاقة قوية مع الطرف الآخر هو مفتاح النجاح في أي مفاوضة. الإجراء الأول هو البدء بحديث صغير لخلق جو من الود والثقة. ثم يأتي دور الاستماع الفعال؛ حيث يجب عليك الاستماع بعناية لما يقوله الطرف الآخر وإظهار التعاطف معه. وهذا بالطبع يساعد على بناء الثقة المتبادلة ويفتح الباب أمام حلول إبداعية.
4. الاستماع الفعال
لا يكفي مجرد سماع ما يقوله الطرف الآخر؛ بل يجب عليك فهم ما يقوله. فالإجراء هنا هو إعادة صياغة ما فهمته من كلامه للتأكد من أنك فهمته بشكلٍ صحيح. كما يجب التركيز على فهم احتياجاته ومخاوفه. وهذا يساعدك على تطوير حلول تلبي احتياجات الجميع.
5. طرح الأسئلة الجيدة
تمثل الأسئلة أداة قوية في المفاوضات. ولكن ليست كل الأسئلة متساوية. فالأسئلة المفتوحة هي الأكثر فاعلية لأنها تشجع الطرف الآخر على تقديم تفسيرات أعمق. والإجراء هنا هو تجنب الأسئلة التي يمكن الإجابة عليها بـ”نعم” أو “لا” والتركيز على طرح أسئلة تستكشف أسباب وجهة نظر الطرف الآخر وتحدياته.
6. التنازلات الذكية
تعد القدرة على التنازل عن بعض المطالب جزءًا لا يتجزأ من أي عملية تفاوض ناجحة. وما يعنيه ذلك هو أن التنازل عن بعض القضايا الأقل أهمية يمكن أن يؤدي إلى تحقيق مكاسب أكبر في القضايا الأكثر أهمية. وبالطبع، الإجراء هنا يتطلب تحديد الأولويات بوضوح، وتقديم تنازلات مدروسة في مقابل الحصول على مكاسب ذات قيمة أكبر.
7. تحيز التثبيت
تكمن فكرة تحيز التثبيت في ميلنا إلى الانحياز نحو المعلومات الأولى التي نتعرض لها. وما يعنيه ذلك في سياق التفاوض هو أن الرقم الأول الذي يتم ذكره في المفاوضات غالبًا ما يؤثر بشكل كبير على النتيجة النهائية. وبالتأكيد، الإجراء هنا هو السعي إلى تقديم العرض الأول لتحديد نبرة المفاوضات، أو الرد بسرعة على عرض الطرف الآخر مع تبرير منطقي.
8. العروض المتعددة
بالطبع، تقديم عروض متعددة في وقت واحد يزيد من مرونة عملية التفاوض ويفتح الباب أمام المزيد من الخيارات. وما يعنيه ذلك هو أنك تقدم للطرف الآخر مجموعة من الخيارات التي قد تختلف في التفاصيل ولكنها متساوية في القيمة بالنسبة لك. والإجراء هنا يتطلب إعداد عروض متعددة بعناية، والسماح للطرف الآخر باختيار الخيار الذي يناسبه.
9. العقود المشروطة
تشكّل العقود المشروطة أدوات قوية لضمان تنفيذ الاتفاقيات بمختلف أحجامها. وما يعنيه ذلك هو ربط تنفيذ بعض بنود العقد بحدوث أحداث أو تحقيق أهداف معينة في المستقبل. ويتطلب الإجراء هنا تحديد شروط واضحة وقابلة للقياس، وتحديد آليات مناسبة لمراجعة وتقييم الأداء.
10. التخطيط لمرحلة التنفيذ
لا يقتصر نجاح أي اتفاق على توقيع العقد، بل يتطلب أيضًا تخطيطًا دقيقًا لمرحلة التنفيذ. وما يعنيه ذلك هو تحديد الخطوات والمسؤوليات اللازمة لتنفيذ الاتفاق، وتحديد مواعيد نهائية واضحة. ويتطلب الإجراء هنا وضع خطة عمل تفصيلية تتضمن آليات لمراجعة التقدم وحل أي مشاكل قد تنشأ.
في ختام هذا الطرح الشامل لمختلف جوانب مهارات التفاوض، يتضح لنا جليًا أن هذه المهارات تتجاوز كونها مجرد أدوات لتحقيق أهداف فردية أو مؤسسية؛ بل هي في جوهرها استثمار في بناء علاقات قوية وفعالة. فمن خلال إتقان فنون التفاوض، يمكن للأفراد والمؤسسات على حد سواء تحقيق نتائج إيجابية ومستدامة، سواء في عالم الأعمال أو في الحياة اليومية.
وتذكر أن القدرة على التفاوض بفعالية هي أكثر من مجرد مهارة، بل هي سمة أساسية للقادة الناجحين. فمن خلال فهم أبعاد التفاوض المختلفة، وتطبيق التقنيات المتقدمة، يمكن للمفاوضين تحقيق أقصى استفادة من كل فرصة. وبناء سمعة قوية كشركاء موثوق بهم.