لطالما شكّل تقييم الشركات الناشئة تحديًا كبيرًا للمؤسسين والمستثمرين على حد سواء. فبينما يعتقد الكثيرون أن هذه العملية تعتمد على معادلات رياضية دقيقة وتحليلات مالية معقدة، فإن الواقع يختلف تمامًا. فتقييم الشركات الناشئة، كما يتضح من خلال العديد من الدراسات والحالات العملية، هو عملية تتأثر بعوامل نفسية واجتماعية أكثر ما عليه عملية حسابية بحتة.
أضف على ذلك أن قرار الاستثمار في شركة ناشئة لا يتخذ عادةً بناءً على تحليل مالي دقيق ومفصل، بل يتأثر بشكلٍ كبيرٍ بالانطباع الأول الذي يتركه فريق التأسيس على المستثمر. في الواقع، يقرر أصحاب رؤوس الأموال في الغالب ما إذا كانوا سيستثمرون أم لا خلال اللقاء الأول مع فريق الشركة، وذلك بناءً على مجموعة من العوامل التي قد لا تكون مرتبطة بالأرقام بشكلٍ مباشر، مثل: الحماس والشغف بالفكرة، وقوة الفريق، والقدرة على التواصل.
وفي حين أن المقاييس المالية تلعب دورًا مهمًا في عملية التقييم، إلا أنها ليست العامل الوحيد الحاسم في توقيت السوق، على سبيل المثال، يمكن أن يؤثر بشكلٍ كبيرٍ على قيمة الشركة. فشركة ناشئة تعمل في قطاع يشهد نموًا سريعًا يمكن أن تحصل على تقييم أعلى بكثير من شركة أخرى تعمل في قطاع راكد، حتى لو كانت المقاييس المالية للشركتين متشابهة.
تقييم الشركات الناشئة
من ناحية أخرى، تؤدي المحفزات النفسية دورًا أكبر مما قد يتخيله البعض في عملية التقييم. فالمستثمرون، مثل أي بشر آخر، يتأثرون بالعواطف والانطباعات الشخصية. وقد يؤدي هذا إلى اتخاذ قرارات استثمارية لا تعتمد بالضرورة على التحليل العقلاني. كما أن الجولات الساخنة، والتي تشهد إقبالًا كبيرًا من المستثمرين على شركات معينة، يمكن أن تؤدي إلى تضخم في التقييمات؛ حيث تتنافس الشركات على جذب الاستثمارات.
كذلك، الأسعار المبكرة التي تحصل عليها الشركة في جولات التمويل الأولى تؤثر بشكلٍ كبيرٍ على التقييمات المستقبلية. فالشركات التي تحصل على تقييمات مرتفعة في جولاتها الأولى تميل إلى الحصول على تقييمات أعلى في الجولات اللاحقة، حتى لو لم تحقق نموًا كبيرًا في أدائها.
وبينما يظهر المستثمرون المختلفون إشارات مختلفة حول ما يبحثون عنه في الشركات الناشئة، إلا أن هناك بعض النقاط المشتركة. فمعظم المستثمرين يركزون على المصطلحات أكثر من الأرقام الرئيسة، مثل: حجم السوق المحتمل، وحجم المشكلة التي تحلها الشركة، وفريق التأسيس. كما أنهم ينظرون إلى احتياجات التمويل المستقبلية للشركة، وذلك لتقييم قدرتها على النمو والتوسع.
سيكولوجية التقييم
تحت مظلة هذه المعطيات التي تشير إلى أن تقييم الشركات الناشئة عملية معقدة تتجاوز الأرقام المحاسبية، تبرز حقيقة صادمة: المقاييس المالية وحدها لا تحدد قيمة الشركة. قد يبدو هذا الأمر مفاجئًا، إلا أنه يعكس واقعًا قائمًا في عالم الاستثمار؛ حيث تلعب العوامل النفسية دورًا حاسمًا في تشكيل قيمة الشركات الناشئة.
وإذا أمعنا النظر في مسار صعود منصة ديسكورد، لوجدناها حققت قفزة نوعية هائلة في قيمتها السوقية خلال فترة زمنية وجيزة، منتقلة من خانة الملايين إلى مليارات الدولارات. ولا شك أن هذا الارتفاع المذهل لم يأتِ من فراغ، بل هو ثمرة لتضافر عوامل عدة، أبرزها الديناميكيات النفسية والسوقية التي حفزت المستثمرين على إعادة تقييم الشركة باستمرار، ومنحها قيمة متزايدة مع كل مرحلة من مراحل نموها.
دوافع قرارات الاستثمار
أضف على ذلك أن قرارات الاستثمار غالبًا ما تتأثر بـ”تأثير النظراء” أو ما يعرف بـ”herd mentality”. فإذا استثمرت شركات كبيرة في شركة ناشئة معينة، فإن ذلك يشجع مستثمرين آخرين على الانضمام إلى هذا الاتجاه؛ ما يؤدي إلى ارتفاع التقييمات بشكلٍ كبير. في حين أن هذا السلوك قد يؤدي إلى فقاعات في بعض الأحيان، إلا أنه جزء لا يتجزأ من طبيعة أسواق رأس المال.
ولا شك أن توقعات المستثمرين المستقبلية تؤدي دورًا كبيرًا في تحديد التقييم. فإذا كان المستثمرون يتوقعون نموًا هائلًا لشركة ناشئة معينة، فإنهم على استعداد لدفع مبالغ طائلة لشراء أسهمها، حتى لو كانت الأرقام المالية الحالية لا تدعم هذا التقييم. كذلك، تلعب العوامل النوعية مثل: قوة الفريق، وحجم السوق المستهدف، والابتكار التكنولوجي دورًا مهمًا في تشكيل التقييم؛ حيث يمكن لهذه العوامل أن تغير نظرة المستثمرين إلى الشركة، وتؤثر على قراراتهم الاستثمارية.
وبينما يعتمد تقييم الشركات الناشئة على مجموعة متنوعة من العوامل، فإن السيكولوجية تبقى القوة الدافعة وراء الكثير من هذه القرارات. كما أن فهم هذه الديناميات النفسية يساعد المؤسسين والمستثمرين على اتخاذ قرارات أكثر استنارة. وتجنب الوقوع في فخ التقييمات غير الواقعية.
واقع تقييم الشركات الناشئة
في إطار السعي نحو فهم أعمق لواقع تقييم المشاريع الناشئة وتحديد العوامل المؤثرة في جذب الاستثمارات، يبرز خمسة اختبارات رئيسية تحدد مدى نجاح هذه المشاريع في اجتذاب المستثمرين. وهذه الاختبارات، التي تشكل معًا خارطة طريق لتقييم المشاريع. تركز على جوانب متعددة تتراوح بين توقيت الطلب على الاستثمار وطبيعة المنافسة في السوق. وصولًا إلى مرونة عملية التقييم وشروط الاستثمار والسيطرة على المشروع.
-
اختبار التوقيت
يعد عامل الوقت من العوامل الحاسمة في عملية التقييم. فهل يسارع أصحاب رأس المال المغامر إلى الالتزام بالاستثمار في المشروع أم يفضلون تأجيل القرار؟ هذا الاختبار يكشف عن مدى جاذبية المشروع ومدى استعداد المستثمرين للمخاطرة. أضف على ذلك، فإن سرعة الاستجابة من قبل المستثمرين تعكس مدى وضوح الرؤية الاستثمارية للمشروع ومدى قدرة فريق العمل على التواصل الفعال مع المستثمرين.
-
اختبار المنافسة
عادةً ما تواجه المشاريع الناشئة منافسة شرسة في السوق، ما يجعل من الضروري أن تتميز بقدرة تنافسية عالية. في حين أن بعض المشاريع تقدم أفكارًا مبتكرة وخدمات غير مسبوقة. إلا أن البعض الآخر قد يواجه تحديات كبيرة في التميز عن المنافسين. من ناحية أخرى، فإن قدرة المشروع على تقديم قيمة مضافة فريدة للمستهلكين هي العامل الحاسم في جذب الاستثمارات.
-
اختبار العملية
تعد عملية التقييم سلسلة من الاجتماعات والمفاوضات بين فريق المشروع والمستثمرين. كذلك، فإن نجاح هذه العملية يعتمد على عدة عوامل، منها جودة العروض التقديمية. ومدى قدرة فريق المشروع على الإجابة على أسئلة المستثمرين. وشفافية المعلومات المقدمة. بينما تسعى بعض المشاريع إلى تقديم عروض تقديمية مبهرة. إلا أن المستثمرين يبحثون عن معلومات دقيقة وموثوقة تساعدهم على اتخاذ قرارات استثمارية مدروسة.
-
اختبار الشروط
تشتمل شروط الاستثمار على مجموعة من العناصر التي تحدد العلاقة بين المستثمرين وفريق المشروع. كما أن شروط الاستثمار الواضحة والمعقولة تساعد على بناء علاقة ثقة بين الطرفين وتساهم في تسريع عملية اتخاذ القرار الاستثماري. ومع ذلك، فإن بعض المستثمرين قد يفرضون شروطًا معقدة وغير عادلة، ما قد يثني بعض المشاريع عن قبول الاستثمار.
-
اختبار التحكم
بالطبع، مسألة التحكم في المشروع من القضايا الحساسة التي تهم كلًا من المستثمرين وفريق المشروع. ففي حين يسعى المستثمرون إلى الحصول على قدر كبير من التحكم في المشروع. إلا أن فريق المشروع يرغب في الحفاظ على استقلاليته واتخاذ القرارات الاستراتيجية. من ناحية أخرى، فإن التوازن بين مصالح الطرفين هو مفتاح النجاح في الشراكة الاستثمارية.
في ختام هذا الطرح الشامل حول تقييم الشركات الناشئة. نجد أن هذه العملية تتجاوز بكثير الأرقام والإحصائيات التي تظهر في البيانات المالية. فبينما تلعب العوامل الكمية دورًا مهمًا في تكوين صورة أولية عن المشروع. فإن العوامل النوعية والسيكولوجية هي التي تحدد القيمة الحقيقية للشركة الناشئة في نظر المستثمرين.
وتذكر في نهاية هذا الأمر أن تقييم الشركات الناشئة هو فن بقدر ما هو علم؛ إذ يتطلب من المستثمرين والمشاريع الناشئة على حد سواء القدرة على فهم الديناميكيات المعقدة التي تحكم أسواق رأس المال. فالعواطف، والتوقعات، والسرديات، كلها تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل قيمة الشركة.