لطالما شكّل معدل الاستنفاذ المالي هاجسًا يؤرق صانعي القرار في المؤسسات حول العالم. فارتفاع هذا المعدل، الذي يعكس سرعة استنزاف الموارد المالية للشركة، يشير إلى صعوبات مالية مستقبلية قد تواجهها.
وفقًا لدراسة حديثة أجراها الاتحاد الأوروبي لعام 2023، فإن 35% من الشركات الصغيرة والمتوسطة تعاني ارتفاع معدل الاستنفاذ، وترتفع هذه النسبة لتصل إلى 50% في قطاعات حيوية، مثل: التكنولوجيا والطاقة.
من ناحية أخرى، تظهر الدراسات أن الشركات التي تتبع استراتيجيات إدارة مالية فعالة تستطيع تقليل معدل الاستنفاذ المالي بنسبة تصل إلى 20%، وفقًا لدراسة لمركز الأبحاث الاقتصادية الأوروبي.
وتكمن أهمية هذه النسبة في قدرتها على تأمين مستقبل الشركة وحمايتها من الأزمات المالية. علاوة على ذلك، يمكن للشركات خفض التكاليف الثابتة والمتغيرة من خلال تطبيق نظم فعالة لمراقبة الموارد المالية وضبط النفقات.
معدل الاستنفاذ المالي
بينما تعود قضية ارتفاع معدل الاستنفاذ المالي في الشركات إلى عوامل عدة تشمل ضعف التخطيط المالي وسوء إدارة التدفقات النقدية. ما يؤدي إلى تآكل الموارد المالية للشركة.
وتعزو بعض الدراسات الأسباب إلى الاعتماد المفرط على القروض ورأس المال الخارجي. ووفقًا لدراسة من جامعة لندن الاقتصادية، يتسبب الاعتماد على القروض في زيادة معدلات الاستنفاذ؛ حيث يتعين على الشركات دفع فوائد متزايدة تؤثر سلبًا في ميزانياتها السنوية. وعلى ضوء هذه المعطيات، يتعين على الشركات تقليل الاعتماد على القروض عبر تنويع مصادر التمويل.
على سبيل المثال، استعرضت دراسة أجريت عام 2022، من قبل جامعة باريس دوفين، تجربة شركات أوروبية متعددة تمكنت من تقليل معدل الاستنفاذ المالي عبر تحسين إدارة التكاليف وتبني الابتكار المالي.
كما أظهرت الدراسة أن الشركات التي طبقت هذه الاستراتيجيات نجحت في تقليل الاستنفاذ المالي بنسبة تصل إلى 15%. أضف إلى ذلك، تعمل بعض الشركات على تبني نظم حوكمة مالية صارمة تسهم في تحسين إدارة الأصول وتقليل المخاطر المالية.
بناءً على ذلك، من الضروري أن تتبنى الشركات في مختلف القطاعات استراتيجيات مالية مرنة قادرة على مواجهة التحديات المالية وتضمن لها استمرارية العمليات دون استنزاف مفرط للموارد.
من جهة أخرى، يُنصح الشركات بالاستفادة من التجارب الأوروبية التي حققت نتائج ملموسة في هذا المجال؛ حيث يعد تقليل معدل الاستنفاذ المالي عاملًا أساسيًا في دعم استدامتها وتعزيز مكانتها في السوق.
ما معدل الاستنفاذ المالي؟
يشير مصطلح “معدل الاستنفاذ المالي” إلى السرعة التي تحرق بها الشركات الناشئة أو الشركات الصغيرة والمتوسطة أموالها قبل أن تتمكن من تحقيق أرباح كافية لتغطية نفقاتها.
بعبارة أخرى، هو المعدل الذي تتناقص به احتياطيات الشركة النقدية مع مرور الوقت. ويقاس هذا المعدل عادةً على أساس شهري. ما يعطي الشركات نظرة واضحة على مدى سرعة استنزاف أموالها.
وتعد معرفة معدل الاستنفاذ أمرًا بالغ الأهمية لأصحاب الشركات والمستثمرين على حد سواء؛ حيث يساعدهم على تقييم مدى استدامة نموذج الأعمال الحالي للشركة وتحديد المدة الزمنية التي يمكن للشركة خلالها الاستمرار في العمل قبل نفاد أموالها. وعادة ما يتم حساب معدل الاستنفاذ بطرح إجمالي الإيرادات من إجمالي النفقات خلال مدة زمنية معينة، مثل: شهر أو ثلاثة أشهر.
ويشكّل معدل الاستنفاذ مؤشرًا حيويًا لصحة الشركة المالية؛ إذ يمكن لمعدل استنفاذ مرتفع أن يشير إلى أن الشركة تواجه صعوبات في تحقيق الأرباح، وتحتاج إلى تمويل إضافي للبقاء على قيد الحياة.
وعلى العكس من ذلك، يمكن لمعدل استنفاذ منخفض أن يشير إلى أن الشركة تدير أموالها جيدًا، وأنها على الطريق الصحيح لتحقيق الاستدامة المالية. ومع ذلك، ينبغي للشركات أن تأخذ في الاعتبار عوامل أخرى عند تقييم صحتها المالية، مثل: حجم السوق المستهدفة، ونمو الإيرادات، وتكاليف التوسع.
آلية احتساب معدل الاستنفاذ المالي
على الرغم من أن الشركات الناشئة تشهد نموًا متسارعًا، فإن إدارة الموارد المالية بكفاءة تبقى الركيزة الأساسية لاستدامة أعمالها. ومن أبرز المؤشرات المالية التي تتطلب متابعة دقيقة “معدل الاستنفاذ المالي”، الذي يعكس مدى سرعة استهلاك الشركة لأموالها.
أنواع معدل الاستنفاذ المالي
يتضمن مفهوم معدل الاستنفاذ نوعين رئيسين:
1. معدل الاستنفاذ الإجمالي:
يمثل هذا النوع إجمالي النفقات التشغيلية التي تتحملها الشركة خلال شهر واحد. شاملًا كل التكاليف الضرورية لسير العمل، من رواتب موظفين وإيجارات ومرافق إلى نفقات تسويق وغيرها من المصروفات المتكررة. ويحسب معدل الاستنفاذ الإجمالي من خلال المعادلة البسيطة التالية:
معدل الاستنفاذ الإجمالي = إجمالي التكاليف التشغيلية الشهرية
2. معدل الاستنفاذ الصافي:
يقدم معدل الاستنفاذ الصافي صورة أكثر شمولية عن الوضع المالي للشركة. وذلك من خلال احتسابه للإيرادات المحققة خلال الشهر. وعادةً ما يحسب هذا النوع من معدل الاستنفاذ بطرح التكاليف المتغيرة (مثل: تكلفة المبيعات) من الإيرادات. ثم طرح معدل الاستنفاذ الإجمالي من النتيجة. وبالتالي، فإن المعادلة الخاصة بحساب معدل الاستنفاذ الصافي هي كالتالي:
معدل الاستنفاذ الصافي = (الإيرادات الشهرية – تكلفة المبيعات) – معدل الاستنفاذ الإجمالي
مدة الاستمرارية المالية
تعرف مدة الاستمرارية المالية بالمدة الزمنية التي يمكن للشركة خلالها الاستمرار في عملياتها التشغيلية بالاعتماد على رأس المال المتاح لديها. وذلك قبل الحاجة إلى جولة تمويل جديدة أو تحقيق إيرادات كافية لتغطية النفقات. بمعنى آخر، هي المدة التي تفصل بين اللحظة الحالية واللحظة التي تنفد فيها أموال الشركة.
كيف تحسب مدة الاستمرارية المالية؟
لحساب مدة الاستمرارية المالية، يقسم إجمالي رأس المال المتاح للشركة على النفقات التشغيلية الشهرية. ويمكن توضيح ذلك بالمعادلة التالية:
مدة الاستمرارية (بالأشهر) = رأس المال الإجمالي ÷ النفقات التشغيلية الشهرية
أهمية مدة الاستمرارية في اتخاذ القرارات الاستراتيجية
تتمثل أهمية مدة الاستمرارية المالية في جوانب حيوية عدة للشركة الناشئة:
- تقييم كفاية رأس المال: تمكن مدة الاستمرارية الشركة من تقييم ما إذا كان رأس مالها الحالي كافيًا لتحقيق أهدافها على المدى القريب والمتوسط، أم أنها بحاجة إلى تمويل إضافي.
- تخطيط الجولات التمويلية: تساعد على تحديد التوقيت المناسب لطلب جولة تمويل جديدة، وحجم التمويل المطلوب. ما يجنب الشركة اللجوء إلى التمويل المبكر أو المتأخر عن الحاجة.
- تحديد أولويات الإنفاق: تمكن الشركة من تحديد النفقات الأساسية التي يجب الحفاظ عليها. والنفقات التي يمكن تأجيلها أو تقليلها بهدف إطالة مدة الاستمرارية.
- قياس فاعلية الخطط التشغيلية: من خلال مقارنة مدة الاستمرارية الفعلية بالمتوقعة، يمكن للشركة تقييم مدى فاعلية خططها التشغيلية. وتحديد الجوانب التي تحتاج إلى تحسين.
- زيادة جاذبية الشركة للمستثمرين: تدل مدة الاستمرارية المالية الطويلة على صحة مالية الشركة وقدرتها على الصمود. ما يجعلها أكثر جاذبية للمستثمرين.
المعدل المثالي لمدة الاستمرارية المالية
لا يوجد معدل مثالي ثابت لمدة الاستمرارية المالية؛ حيث يختلف هذا المعدل باختلاف طبيعة العمل وحجم الشركة ومرحلتها التنموية. ومع ذلك، ينصح الخبراء بأن تمتلك الشركات الناشئة احتياطيًا نقديًا يكفي لتغطية نفقاتها التشغيلية لمدة تتراوح بين 3 إلى 6 أشهر.
مثال توضيحي
لنفترض أن شركة ناشئة تمتلك رأس مال إجمالي قدره 100 ألف دولار، وأن نفقاتها التشغيلية الشهرية تبلغ 16,667 دولار. في هذه الحالة، فإن مدة الاستمرارية المالية لهذه الشركة ستكون 6 أشهر (100 ألف دولار ÷ 16,667 دولار). وهذا يعني أن الشركة يمكنها الاستمرار في العمل لمدة 6 أشهر قبل الحاجة إلى تمويل إضافي.
في ختام هذا الطرح الشامل، يتضح لنا جليًا أن هذا المؤشر المالي الحساس له دور محوري في صحة وحيوية المؤسسات، لا سيما الشركات الناشئة والشركات الصغيرة والمتوسطة. فارتفاع معدل الاستنفاذ يشير إلى تحديات مالية قد تؤثر سلبًا في استمرارية الأعمال. بينما يعكس انخفاضه كفاءة إدارة الموارد المالية واستدامة أكبر.