تحقيق التوازن بين مراعاة الأخلاقيات وحجم العائد على الاستثمار في أي منشأة يدخل ضمن مفهوم “الاستثمار الأخلاقي”، الذي يرتبط بشكل وثيق بالأثر الإيجابي على المجتمع والبيئة.
حيث يسعى هذا النوع من الاستثمار إلى الإسهام بشكل إيجابي في البيئة والحياة وتقديم منافع اجتماعية وبيئية، وهو ما يطلق عليه اسم “الاستثمار الواعي مجتمعياً”.
هناك عدد من المعايير التي تحدد ما إذا كان هذا الاستثمار أخلاقي أم لا؟ حيث ترتبط هذه المعايير بالأثر الإيجابي أو السلبي لأي استثمار، فنجد أن الاستثمارات الأخلاقية أو الواعية مجتمعيا ذات أثر إيجابي من خلال دعم حماية البيئة والحد من التلوث وإعادة التدوير والسلامة المهنية وممارسات أخلاقيات العمل، في النقيض نجد أن الاستثمارات غير الأخلاقية تتسهم باستغلال الحيوانات بشكل جائر أو خرق حقوق الإنسان فضلا عن الممارسات التي تضر بالبيئة إلى جانب ضعف أو انعدام ثقافة الأخلاقيات في العمل.
ويعرف خبراء الأعمال والإدارة الاستثمار الأخلاقي بأنه المشروع الاستثماري الذي يضع فيه المستثمر أمواله شرط أن يهدف هذا المشروع لخدمة المجتمع، ولا يضره بشكل مباشر أو غير مباشر.. فتجد الاستثمارات الأخلاقية تهتم بالبيئة والصحة والمجتمع والثقافة ولا تمسهم بأي ضرر، فضلا عن أنها تتسم دوافع هذا الاستثمار من خلال دوافع أخلاقية ومعاملاته تحكمها الشريعة السمحاء، إلى جانب شعور العاملين في هذه المنشأة أو تلك بأنهم غير مستنزفين ويأخذون أجر عملهم على أكمل وجه، بل وتساعدهم لأن يكونوا مواطنين صالحين، وتسهم في بناء ذواتهم نفسيا وعقليا واجتماعيا.
وهذا النوع من الاستثمارات يعبر عن المسؤولية المجتمعية التي تهتم بالمجتمع والبيئة باعتبارها أجزاء رئيسة يجب مراعاتها في التوجه الاستراتيجي لأي منشآة تنشد تحقيق التميز في عالم الأعمال، وتحرص في الوقت ذاته على البناء والمساهمة في صنع مستقبل مشرق للمجتمع وللأجيال القادمة.
ويؤكد الاهتمام بالاستثمار الأخلاقي عالميا ما قاله رئيس مؤسسة المنتدى الاقتصادي الإسلامي العالمي تون موسى هيتام بأن الناس حين يلتقون لممارسة الأعمال التجارية، يتناسون ما بينهم من فروقات دينية وسياسية ومذهبية؛ وذلك لأن بينهم عاملا مشتركا تفوق أهميته أهميةَ هذه الفروقات، ألا وهو الرغبة في التنعم بالسلام والازدهار، مؤكدا أن الاستثمار الأخلاقي والواعي أو المسؤول مجتمعيا هو ما يضيف قيمة للأنظمة الاقتصادية ويحسن من مستوى المعيشة ويحقق الاستدامة والرخاء.
وتفيد الدراسات العلمية بأن قطاع الاستثمار المسؤول اجتماعيا والبالغة قيمته ستة تريليون دولار قد شهد نموا مطردا خلال السنوات العشر الماضية، إذ تنامت الأصول الخاضعة للإدارة في قطاع الاستثمار المسؤول اجتماعيا في أوروبا بنسبة 26%.
واليوم يؤكد الخبراء الحاجة الماسة إلى الاستثمار الأخلاقي باعتباره استثمارا مستقرا ويشجع على تطوير المجتمع، فضلا عن تحقيقه التنمية الاقتصادية المستدامة وعدم إضراره بالبيئة، والمخاطرة في جني الأرباح، ويرون أن الاستثمار المسؤول اجتماعيا قادر على تلبية احتياجات المستثمرين لاسيما في تحقيق إضافة نوعية للاقتصاد وخدمة المجتمع، فضلا عن انتهاج استراتيجية استثمار تلتزم بتعاليم الشريعة الإسلامية السمحاء وحصد ثمار نهج يجمع بين الشريعة والاستثمار المسؤول أخلاقيا الذي يحظى بدعم وتأييد المجتمع ويحقق الاستدامة.
إن تبني المنشآت من خلال قيمها الجوهرية للمسؤولية المجتمعية وخدمة المجتمع يجعلها تتمتع بميزات منها تحقيق العدالة والتوازن بين أفراد المجتمع ويعزز دورها تجاه المجتمع ويجدر روح التعاون والمبادرة لدى منسوبيها ويخلق الانسجام مع رسالة ورؤية وثقافة المنشأة ذاتها وأهدافها في حماية الإنسان ومراعاة حقوقه وبالتالي تعزيز صورة المنشأة لتكون نموذجا للمنشأة الخيرة الإنسانية، وهنا تتجلى الصورة الحقيقة لأي منشآة تتصف بأنها مسؤولة مجتمعيا من خلال تميزها في الاستثمار الأخلاقي ومساهمتها في تحقيق التنمية المستدامة للمجتمع الذي تعمل فيه وتحقق عوائد منه.
وأصبحت الدول الأوروبية تهتم بالاستثمارات الأخلاقية من خلال استثمار جزء من موارد المنشآت وفقا لمعايير اجتماعية أو لمقاييس تضمن تحقيق التنمية المستدامة إلى جانب دعمها النهج الأخلاقي في الاقتصاد، وبات الاستثمار المسؤول مجتمعيا جزءا مهما ومتناميا من المسؤولية المجتمعية للمؤسسات والشركات، حيث إنه لا يؤثر إيجابا على المؤسسات فحسب، بل إنما على قطاع الاستثمار العالمي كله.
ووفقاً للخبراء تعتبر المنشآت التي تلبي المعايير القائمة للمسؤولية تجاه المجتمع كفرص استثمارية قوية، وتتمحور هذه المعايير في الاستثمار المجتمعي بين معايير اقتصادية وبيئية واجتماعية لتصبح عاملا حاسما في نجاح الشركات والمؤسسات على المدى الطويل.
ويفيد الخبراء بأن الدراسات كشفت أن أبناء المجتمع يرغبون بالعمل والتعامل مع المنشآت الأخلاقية ذات المسؤولية المجتمعية التي تتبنى مبادرات مجتمعية، وأشاروا إلى أن نجاح الكثير من هذه المنشآت يأتي نتيجة لاستراتيجيتها ومبادراتها المجتمعية وتحملها لمسؤولياتها الأخلاقية وعدم تركيزها على تحقيق الأرباح فقط.
ففي مسح ميداني أجرته شركة ماكنزي الاستشارية في الولايات المتحدة كشف أن 95% من المديرين التنفيذيين الذين شملهم مسح يرون بأن المجتمع الآن لديه قناعة أعلى بالشركات بأن تضطلع بمسؤولياتها المجتمعية مقارنة بالحال قبل خمس سنوات من إجراء الدراسة، كما كشف المسح أن المؤسسات التي تشارك في المسؤولية المجتمعية تصبح مؤسسات أخلاقية وتدخل ضمن منظومة متكاملة من قيم الصدق والعدالة والنزاهة التي تعزز موقعها وسمعتها داخل المجتمع الذي تعمل في كنفه، الأمر الذي يحقق لها عوائد طويلة الأجل من خلال الاستثمار المجتمعي الذي يتميز بإتاحة الفرصة لابتكار واختبار منتجات وخدمات جديدة، واستقطاب المتميزين من أبناء المجتمع إلى جانب زيادة انتماء المجتمع لها.
يجب على مستثمري المستقبل التفكير في “الاستثمار الأخلاقي” وأن يكون للمستثمر دور في إصلاح المجتمع ورفعته وحماية البيئة.
فالمستقبل سيكون حتما للاستثمارات الواعية مجتمعيا بسبب الوعي المتزايد لدى أبناء المجتمعات وسعيهم للحفاظ على بيئتهم وتحقيق الاستدامة؛ لضمان مستقبل مشرق للأجيال الحالية والقادمة.