ما من ريبٍ أن التفاوض على الراتب، ذلك الفن الرقيق الذي يتقنه قلة، يمثل نقطة تحول حاسمة في مسار أي مهني. ففي عالم الأعمال المتسارع؛ حيث تتنافس الكفاءات، أصبح هذا الأمر بمثابة مفتاح للوصول إلى الأجور العادلة التي تستحقها الخبرات والمهارات. غير أن الدراسات الحديثة تكشف عن حقيقة صادمة؛ إذ تبين أن نسبة كبيرة من المهنيين تتنازل عن حقها المشروع في التفاوض، مكتفية بما يعرض عليها دون أي محاولة لتحسين شروط العقد.
في خضمّ ذلك، أظهرت دراسة أجرتها كلية “هارفارد” للأعمال أن ما يقرب من نصف المهنيين، أي 54%، يقبلون العروض الوظيفية كما هي دون الدخول في أي نقاش حول الراتب. وهذا يعني أن هؤلاء المهنيين يفوّتون فرصة ذهبية لتحسين أوضاعهم المالية، بل وربما يقبلون بأقل ما يستحقون. علاوة على هذا الأمر، تشير الدراسة ذاتها إلى أن من يتجرأون على التفاوض يحصلون على نتائج ملموسة؛ حيث إن 87% منهم يتمكنون من الحصول على تعويضات إضافية.
التفاوض على الراتب
من ناحية أخرى، يمكن القول إن الخوف من الرفض أو الإحراج هو السبب الرئيسي وراء تردد الكثير من الموظفين عن التفاوض. فهم يعتقدون أن طلب زيادة في الراتب قد يؤدي إلى فقدان الوظيفة أو إفساد العلاقة مع صاحب العمل. بينما الحقيقة هي أن الشركات الكبرى تبحث دائمًا عن أفضل الكفاءات، وهي على استعداد لدفع الثمن المناسب للحصول عليها. فالتفاوض ليس معركة، بل هو حوار بهدف الوصول إلى اتفاق يرضي الطرفين.
كذلك، ينبغي أن ندرك جيدًا أن الراتب ليس مجرد رقم، بل هو اعتراف بقيمة العمل الذي نقوم به. وعندما نتنازل عن حقنا في التفاوض، فإننا في الواقع نقدر أنفسنا بأقل من قيمتنا الحقيقية. في حين أن التفاوض يتطلب بعض المهارات والتحضير، إلا أنه ليس بالأمر الصعب كما يتصور البعض. فبالتسلح بالثقة بالنفس والمعرفة الكافية بسوق العمل، يمكن لأي مهني أن يحصل على الراتب الذي يستحقه.
أسرار التفاوض على راتب أعلى في مقابلات العمل
من الأهمية بمكان أن يعي الباحث عن عمل أن عملية التوظيف ليست مجرد تبادل لسيرة ذاتية ومقابلة؛ بل هي معركة ذكية تتطلب استعدادًا وتخطيطًا دقيقًا.
وفي صلب هذه المعركة، تبرز قضية “التفاوض على الراتب” كأحد أهم المحاور التي تحدد نجاح العملية برمتها. فكيف يمكن للباحث عن عمل أن يتفاوض بنجاح ليحصل على الراتب الذي يستحقه؟
1. التخطيط المسبق
قبل الدخول في غمار المقابلة، ينبغي على الباحث أن يبذل جهدًا كبيرًا في جمع المعلومات حول الراتب المتعارف عليه في السوق للوظيفة التي يتقدم لها. فبمعرفة النطاق العام للرواتب، يكون الباحث في موقع قوة لتحديد الراتب الذي يطمح إليه. كما ينصح الخبراء بالبدء في التفاوض قبل المقابلة مباشرة، من خلال طرح أسئلة واضحة حول نطاق الراتب المتوقع. ما يضع الكرة في ملعب المجند ويجعله يحدد توقعاته بشكل أكثر وضوحًا.
2. طرح أسئلة ثاقبة أثناء المقابلات
تعد المقابلة فرصة واعدة للباحث لجمع المزيد من المعلومات حول الشركة والوظيفة، والتي يمكن استغلالها لاحقًا في عملية التفاوض. فبطرح أسئلة ذكية ومحددة حول المسؤوليات الموكلة للوظيفة، والتحديات التي تواجهها الشركة، يمكن للباحث أن يبني صورة واضحة عن قيمة ما يقدمه. وبالتالي يكون في وضع أفضل للتفاوض على راتب أعلى.
3. الحذر من الوعود الكاذبة
عند التفاوض على الراتب، ينبغي على الباحث أن يكون حذرًا من الوعود التي قد يطلقها المجندون، والتي قد لا تكون واقعية أو قابلة للتحقيق. فبعض المجندين قد يلجأون إلى المبالغة في وصف المزايا التي تقدمها الشركة. وذلك بهدف إغراء الباحث بقبول عرض أقل من المتوقع. لذلك، ينصح الخبراء بالتركيز على الحقائق والأرقام، والطلب من المجند تقديم عرض كتابي يوضح تفاصيل الراتب والمزايا الأخرى.
4. التعامل مع اللجان
في الشركات الكبيرة، غالبًا ما تتولى لجنة خاصة مهمة تحديد الرواتب، وتتبع هذه اللجان صيغًا محددة في تحديد العروض النهائية. وهذا يعني أن عملية التفاوض قد تكون أكثر صعوبة؛ حيث إن الباحث قد لا يتعامل مع شخص واحد؛ بل مع لجنة كاملة.
لذلك، يجب على الباحث أن يكون مستعدًا لهذا التحدي، وأن يركز على تقديم حجج منطقية وقوية لدعم طلبه بزيادة الراتب.
5. فهم العرض
بعد انتهاء المقابلة وتلقي العرض الوظيفي، يأتي الدور الحاسم في تحليل العرض وفهم دلالاته. فالعرض المقدم قد يكون مؤشراً على مدى اهتمام الشركة بالمتقدم وقيمته بالنسبة لها. لذلك، يجب على الباحث أن يقوم بتقييم العرض بعناية، وأن يحاول فهم المعايير التي اعتمدت عليها الشركة في تحديد هذا الراتب. هل العرض منخفض مقارنة بمتوسط الرواتب في السوق؟ أم أنه يتناسب مع الخبرات والمؤهلات؟ أم أنه أعلى من المتوقع؟ الإجابة على هذه الأسئلة ستساعده على تحديد استراتيجيته في التفاوض.
6. بيع القيمة الذاتية
قبل البدء في التفاوض، من الضروري أن يقوم الباحث بتقييم قيمته الذاتية للشركة، وأن يركز على إبراز ما يميزه عن غيره من المتقدمين. فبناءً على الخبرات والمهارات التي يمتلكها، والإنجازات التي حققها في السابق، يمكن للباحث أن يبرهن على أنه يستحق راتبًا أعلى. كما يمكنه أن يشير إلى الدراسات التي أجريت حول قيمة المهارات التي يمتلكها في السوق، وأن يربطها بمساهمته المتوقعة في الشركة.
7. تقييم العرض الشامل
عند تقييم العرض، يتطلب من الباحث أن ينظر إلى الصورة الكبيرة، وأن يأخذ في الاعتبار جميع العوامل التي تؤثر على قيمة العرض، وليس الراتب فقط. فبالإضافة إلى الراتب الأساسي، هناك العديد من العوامل الأخرى التي يجب أخذها في الاعتبار، مثل:
- الحوافز والمكافآت: هل يشمل العرض حوافز سنوية أو ربع سنوية؟ وهل هناك نظام للمشاركة في الأرباح؟
- الأسهم: هل تقدم الشركة أسهمًا للموظفين؟ وما هي شروط الحصول على هذه الأسهم؟
- الإجازات: هل تقدم الشركة عددًا كافيًا من أيام الإجازة المرضية والإجازات السنوية؟
- المزايا الإضافية: هل تقدم الشركة أي مزايا إضافية، مثل التأمين الصحي أو المتاحن الرياضية؟
8. مقارنة العروض
إذا كان الباحث لديه عدة عروض وظيفية، فإنه يجب أن يقارن بينها بعناية قبل اتخاذ القرار النهائي. فبمقارنة العروض المختلفة، يستطيع الباحث أن يحدد العرض الذي يقدم له أفضل قيمة مقابل الجهد الذي يبذله. كما يمكنه أن يستخدم هذه المقارنة كأداة للتفاوض مع الشركات الأخرى؛ حيث يمكنه أن يشير إلى العروض الأخرى التي تلقاها، وأن يطلب من الشركات الأخرى تحسين عروضها.
9. فهم آفاق النمو المهني
عند تقييم العرض الوظيفي، ينبغي على الباحث أن ينظر إلى ما هو أبعد من الراتب الحالي، وأن يتساءل عن إمكانات النمو والتطور المهني التي يوفرها هذا الدور. فهل يقدم الدور فرصًا للترقية السريعة؟ وهل هناك برامج تدريبية متاحة لتنمية المهارات؟ الإجابات على هذه الأسئلة ستساعده على تقييم القيمة طويلة الأجل للعرض، وأن يتخذ قرارًا مستنيرًا.
10. طلب زيادة الراتب
قد يشعر الكثيرون بالحرج أو الخوف من طلب زيادة في الراتب، ولكن الحقيقة هي أن هذا الأمر طبيعي ومتوقع في عالم الأعمال. فالشركات تبحث دائمًا عن أفضل الموظفين، وهم مستعدون لدفع رواتب أعلى للأشخاص الذين يثبتون قيمتهم. لذلك، يجب على الباحث أن يتجاوز هذا الشعور بالحرج، وأن يطلب بجرأة الراتب الذي يستحقه.
في نهاية المطاف، يتضح لنا أن التفاوض على الراتب ليس مجرد مسألة شخصية؛ بل هو حق مشروع لكل فرد يسعى لتحقيق الاستقرار المالي والنمو المهني. فبالتسلح بالثقة بالنفس والمعرفة الكافية، يمكن لأي مهني أن يحصل على الراتب الذي يستحقه. لا تتردد في التفاوض، فذلك ليس ضعفًا بل قوة، وقد يكون مفتاحًا لبناء مستقبل مهني زاهر.
وتذكر أن راتبك ليس مجرد رقم، بل هو انعكاس لقيمتك ومساهمتك في الشركة. فكن صريحًا، وواثقًا، واعلم أنك تستحق الأفضل.