تتجه أسواق المال العالمية إلى إعادة تقييم ظاهرة تسريحات الموظفين. بعد أن كانت تعد في السابق خطوة مرحبًا بها من المستثمرين إذا جاءت ضمن إطار إعادة هيكلة إستراتيجية، إلا أن تقارير حديثة صادرة عن بنك جولدمان ساكس كشفت عن تحوّل لافت في نظرة الأسواق.
في حين لم تعد هذه القرارات تقابل بالترحيب ذاته، بل باتت تفسَّر بأنها مؤشر سلبي على مستقبل الشركات. حتى عندما تبرَّر بعوامل تبدو إيجابية ظاهريًا.
ويشير محللو البنك الاستثماري الأمريكي إلى أن موجة تسريحات الموظفين الأخيرة لم تكن مدفوعة بتدهور حاد للطلب أو انهيار في المبيعات. بل جاءت في معظمها نتيجة إعادة هيكلة مرتبطة بالأتمتة والتقدم التكنولوجي، لا سيما استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.
ومع ذلك فإن رد فعل الأسواق كان معاكسًا للتوقعات؛ حيث تراجعت أسهم تلك الشركات بدلًا من ارتفاعها.
وتبرز أهمية هذا التحول في كونه يأتي في توقيت حساس. تتزايد فيه رهانات الشركات العالمية على الذكاء الاصطناعي بوصفه أداة رئيسة لخفض التكاليف وتعزيز الكفاءة التشغيلية. غير أن المستثمرين، على ما يبدو، باتوا أكثر حذرًا في تصديق الروايات الرسمية. وهو ما يضع تسريحات الموظفين تحت مجهر أكثر دقة من أي وقت مضى.
تحوّل نظرة المستثمرين إلى قرارات التسريح
لطالما ارتبط الإعلان عن إعادة هيكلة إستراتيجية بارتفاع أسعار الأسهم؛ إذ كان ينظر إليه كخطوة استباقية لتحسين الأداء طويل الأجل.
في المقابل كانت تسريحات الموظفين الناتجة عن تراجع الإيرادات أو ارتفاع التكاليف تعد إشارة ضعف تدفع المستثمرين إلى البيع. غير أن هذا التقسيم التقليدي لم يعد صالحًا بالقدر نفسه.
محللو جولدمان ساكس أوضحوا أن ربط إعلانات التسريح الأخيرة ببيانات الأرباح وأداء الأسهم كشف عن مفارقة واضحة. فعلى الرغم من أن معظم الشركات عزت قراراتها إلى عوامل «حميدة»، مثل: الأتمتة والتطورات التقنية، فإن أسهمها سجلت تراجعًا بمتوسط 2%. بل إن الشركات التي بررت قراراتها بإعادة الهيكلة تعرضت لضغوط أكبر في السوق.
ويعكس هذا السلوك، بحسب التقرير، إدراكًا متزايدًا لدى المستثمرين بأن تسريحات الموظفين، حتى عندما تُغلَّف بخطاب تقني متفائل، قد تخفي وراءها تحديات أعمق تتعلق بربحية الشركات وقدرتها على النمو المستدام.
أرقام تكشف دوافع أعمق من المعلَن
تشير تحليلات جولدمان ساكس إلى أن الشركات التي أعلنت مؤخرًا تسريحات الموظفين أظهرت خصائص مالية مقلقة مقارنة بنظيراتها في القطاعات نفسها. إذ سجلت هذه الشركات مستويات أعلى من الإنفاق الرأسمالي، وارتفاعًا في الديون. ونموًا أكبر بمصروفات الفائدة، مقابل نمو أضعف في الأرباح.
وبالتالي يرى المحللون أن قرارات خفض العمالة قد لا تكون مدفوعة فقط بالسعي إلى تحسين الكفاءة عبر الذكاء الاصطناعي. بل ربما جاءت استجابة لضغوط مالية حقيقية، مثل: الحاجة إلى تقليص التكاليف لتعويض ارتفاع أعباء التمويل وتراجع الهوامش الربحية.
ويضاف إلى ذلك أن موسم إعلان النتائج المالية حمل إشارات متكررة إلى احتمال «ارتفاع» وتيرة تسريحات الموظفين خلال الفترة المقبلة. مدفوعًا جزئيًا برغبة الشركات في توظيف الذكاء الاصطناعي كوسيلة مباشرة لخفض تكاليف العمالة. وهو ما يعزز مخاوف المستثمرين من أن تكون هذه القرارات انعكاسًا لضعف هيكلي أوسع.
الذكاء الاصطناعي بين التفاخر والحذر الاستثماري
خلال الأشهر الماضية تحولت الإشادة بالذكاء الاصطناعي والتفاخر بتقليص أعداد الموظفين إلى ما يشبه الاتجاه السائد بين كبار التنفيذيين، خصوصًا في قطاع التكنولوجيا.
وفي خضمّ ذلك صرّح عدد من قادة الشركات الكبرى، مثل: أمازون وتارجت وجيه بي مورجان تشيس، بأن مكاسب الكفاءة الناتجة عن الذكاء الاصطناعي قد تقلل الحاجة إلى توظيف أعداد كبيرة مستقبلًا.
وتعكس هذه التصريحات لغة جديدة في الخطاب التنفيذي، وصفت بأنها مباشرة وواثقة، بعيدة عن النبرة الدفاعية أو الاعتذارية. بل أصبح تقليص عدد الموظفين، لدى بعض الرؤساء التنفيذيين في شركات فورتشن 500، بمثابة “وسام شرف” يعكس التزامهم الكامل بالتحول الرقمي.
ومع ذلك فإن هذا الخطاب لا يلقى قبولًا مطلقًا في الأسواق. فالمستثمرون، بحسب جولدمان ساكس، باتوا أكثر تشككًا في ربط التسريحات حصريًا بالتحول التكنولوجي. خاصة عندما تتزامن هذه القرارات مع مؤشرات مالية سلبية.
العودة إلى العنصر البشري
رغم الزخم الكبير لسرديات الكفاءة المدفوعة بالذكاء الاصطناعي فإن بعض التجارب الحديثة أظهرت أن المبالغة في الاعتماد عليها قد تأتي بنتائج عكسية.
وأعلنت شركة كلارنا، بعد أشهر من الترويج لقدرة الذكاء الاصطناعي على استبدال العمالة البشرية، التراجع عن تجميد التوظيف والعودة إلى تعيين موظفين جدد.
وبرر الرئيس التنفيذي للشركة هذا القرار بالحاجة إلى ضمان توافر خيار التفاعل البشري للعملاء. مؤكدًا أن وجود الإنسان يظل عنصرًا حاسمًا من منظور العلامة التجارية وثقة المستخدمين.
وتسلط هذه الخطوة الضوء على أن تسريحات الموظفين، عندما تبنى فقط على اعتبارات تقنية، قد لا تكون دائمًا الخيار الأمثل على المدى الطويل.
في المحصلة يكشف تقرير جولدمان ساكس عن مرحلة جديدة في تعامل الأسواق مع تسريحات الموظفين. تتسم بقدر أكبر من الشك والتحليل العميق للدوافع الحقيقية وراء هذه القرارات.
ومع تصاعد دور الذكاء الاصطناعي في إستراتيجيات الشركات يبقى التحدي الأساسي هو تحقيق توازن دقيق بين الكفاءة التشغيلية والاستدامة المالية وثقة المستثمرين.



