يبدو أن مسألة القيادة التنفيذية تتجاوز مجرد إصدار الأوامر والتحكم بالموظفين. لتصبح فنًا يوازن بين القوة الإنسانية والإستراتيجية الذكية. هذه الحقيقة أدركها جاري ريدج خلال مسيرته في قيادة شركة WD-40.
واستطاع تحويل المؤسسة من بيئة تعتمد على السيطرة المطلقة إلى نموذج يحتذى به في التمكين والإبداع والشغف بالعمل.
قبل التحاقه بجامعة سان دييجو عام 1999م لدراسة الماجستير في القيادة التنفيذية. كان ريدج يعتمد أسلوب القيادة التقليدي المعروف بمبدأ: «كن مختصرًا، كن لامعًا، ثم انصرف». مؤمنًا بأن النجاح يكمن في السيطرة والتحكم الكامل.
لكن انتقاله حديثًا من أستراليا ورغبته في توسيع انتشار WD-40 إلى 176 دولة حول العالم جعلاه يدرك أن القيادة الحقيقية تحتاج إلى أكثر من مجرد قوة الأوامر. بل تتطلب قدرة على التحفيز، والتمكين، وبناء بيئة آمنة للموظفين.
وهكذا بدأت رحلة التحول الملهمة لـ «ريدج»؛ إذ تعلم من أساتذته -وعلى رأسهم كين بلانشارد- أن القيادة الحقيقية لا تُقاس بالتحكم فحسب. بل بالقدرة على تمكين الآخرين، وتحفيزهم على اتخاذ القرارات بثقة، والمبادرة بالشجاعة.
إضافة إلى تحويل كل موظف إلى عنصر فاعل في تحقيق الأهداف الإستراتيجية للشركة على المستوى العالمي.
تعزيز بيئة العمل وتمكين الموظفين
ركز جاري ريدج على تطوير بيئة عمل تشجع على الابتكار والشجاعة. قائلًا: «إذا كنا سنوسّع أعمالنا إلى 176 دولة حول العالم. وهو ما فعلناه بالفعل، وإن كان من المفترض ألا تغيب الشمس عن موظفي المؤسسة. فكان عليّ أن أضمن توفير بيئة يشعرون فيها بالأمان الكافي لاتخاذ القرارات والتحلي بالشجاعة».
وساعده في ذلك اعتماد أسلوب القيادة التنفيذية الخادمة، الذي يضع تمكين الموظفين في قلب الإستراتيجية. إذ كان يذكّر نفسه باستمرار بأهمية وضع الآخرين أولًا. وكتب على يده عبارة «امدح شخصًا ما» لأشهر عدة كتذكير يومي بأن نجاحه مرتبط بتحفيز فريقه، وليس بالتركيز على ذاته فقط.
كما رفض ريدج تخصيص مكتب أكبر من موظفيه أو موقف سيارات خاص له. مؤكدًا أن الاهتمام بالموظفين والقيم والتعلم المستمر يحقق نتائج إستراتيجية أفضل.
وقال: «إرادة الناس مضروبة في الإستراتيجية تساوي النتيجة. إذا استثمرت وقتًا جيدًا في الأفراد والهدف والقيم والتعلم يكون لديك عدد أكبر من الأشخاص الذين ينهضون كل يوم بحماس وشغف لتنفيذ خطتك الإستراتيجية. الأمر بهذه البساطة فعلًا».
التحديات التي تواجه الرؤساء التنفيذيين
وأوضح جاري ريدج أن العديد من الرؤساء التنفيذيين يعانون من أسلوب القيادة القائم على السيطرة والتحكم. إذ يعتقدون أن امتلاك الأنا الكبيرة وقلة التعاطف والاعتماد على الإدارة الدقيقة هو الطريق نحو النجاح.
فيما قال: «إنهم ينظرون إلى أشخاص ناجحين يملكون جميع الإجابات ولا يقدّرون التعلم الحقيقي. فيظنون أن هذا هو الطريق الصحيح».
وانطلاقًا من هذا التشخيص شدد ريدج على ضرورة إحداث تحوّل جذري في مفهوم القيادة التنفيذية عبر وضع احتياجات الآخرين وتطلعاتهم في المقام الأول. يتطلب هذا التوجه الجديد من القائد تحدي أفكاره الذاتية وانحيازاته الشخصية بصفة مستمرة؛ الأمر الذي يساهم مباشرة في تعزيز روح الفريق ورفع كفاءته المهنية.
علاوة على ذلك يوفر هذا الأسلوب بيئة محفزة تدفع الموظفين للمشاركة بفاعلية ونشاط في صياغة وتنفيذ الإستراتيجيات الكبرى للمنظمة.
وتعضيدًا لهذه الرؤية تؤكد الأبحاث المعاصرة أن القائد الداعم الذي يمزج ببراعة بين التعاطف والمرونة والشفافية مع الحفاظ على مبدأ المساءلة يرسل إشارات إيجابية قوية ترفع من ولاء الموظفين.
وحول كيفية كشف هذه السمات تقترح ديبالي فياس؛ المسؤولة في شركة «Korn Ferry»، توجيه سؤال جوهري وبسيط خلال مقابلات التوظيف: «كيف يصفك فريقك الحالي وأسلوب قيادتك؟». هذا التساؤل كفيل بكشف مدى وعي المدير المحتمل بتأثيره الحقيقي في مرؤوسيه وطبيعة النهج القيادي الذي يتبعه فعليًا.
سمات المدير الناجح وفق الخبراء
وتفصيلًا لتحليل تلك الإجابات توضح ديبالي فياس أن الردود التي تركز على تمكين الموظفين ومنحهم مساحة كافية للابتكار. كقول القائد: “أمنحهم استقلالية في تنفيذ أفكارهم مع تقديم الدعم عند الحاجة”، تعكس نضجًا كبيرًا ومرونة وثقة عالية في الفريق.
وبالمقابل تبرز الإجابات التقليدية التي ترتكز على تنفيذ الأوامر المجردة فجوة عميقة في الوعي القيادي. ما يجعل التمكين هو المعيار الحقيقي للتفوق في البيئات التنافسية الحديثة.
وعلى صعيد متصل يرى الخبراء أن التوازن الدقيق بين الذكاء العاطفي والمرونة في اتخاذ القرارات يمثل العلامة الفارقة للقيادة التنفيذية الفعالة.
هذا التوجه، البعيد عن الجمود، يسهم بشكل مباشر في رفع وتيرة الإنتاجية وتحقيق الأهداف الإستراتيجية الكبرى للمؤسسات. عبر توفير بيئة عمل صحية تشجع على العطاء وتنمي الشعور بالمسؤولية لدى كل الكوادر الوظيفية.
واستنادًا إلى هذه المعطيات تبرز تجربة غاري ريدج الملهمة في قيادة شركة «WD-40» كنموذج حي يبرهن على أن التطور الشخصي والتحول الجذري في فلسفة القيادة يصنع فارقًا هائلًا في نجاح الشركات عالميًا.
ويظل اتخاذ قرار التغيير هو الخطوة الأولى نحو بناء مؤسسات مستدامة؛ حيث يكمن النجاح الحقيقي في القدرة على قيادة البشر لا مجرد إدارة الأرقام والعمليات.



