في وقتٍ تتصاعد فيه التحذيرات من تداعيات الإرهاق الوظيفي للأطباء على الأنظمة الصحية حول العالم، برزت قصة الطبيب الأسترالي السابق توماس كيلي كحالة نموذجية تجسد التحول من المعاناة المهنية إلى الابتكار التكنولوجي.
في حين قاد الإرهاق المزمن وضغوط العمل اليومية كيلي إلى مغادرة مهنة الطب، ليؤسس لاحقًا شركة ذكاء اصطناعي طبية تقدَّر قيمتها اليوم بأكثر من 460 مليون دولار.
بدأت القصة فعليًا عام 2017، حين تخرّج كيلي في كلية الطب وبدأ ممارسة المهنة التي سعى إليها منذ طفولته. غير أن الواقع العملي سرعان ما كشف عن فجوة واسعة بين التصورات الأكاديمية ومتطلبات العمل الفعلية داخل المؤسسات الصحية؛ حيث اصطدم الطبيب الشاب بقيود الوقت وضغوط الأداء.
ومع تزايد أعباء العمل تحوّل الإرهاق الوظيفي للأطباء من حالة عابرة إلى تحدٍ يومي مستمر. ما دفع كيلي إلى إعادة تقييم مستقبله المهني والبحث عن حلول تتجاوز الأطر التقليدية لممارسة الطب.
واقع الممارسة الطبية
خلال عمله السريري كان كيلي يواجه نظامًا صارمًا يفرض تخصيص 10 دقائق فقط لكل مريض. في وقت كان يطلب منه فيه متابعة ما يقارب 100 مريض يوميًا. وإلى جانب ذلك كان مسؤولًا عن تنسيق نحو 700 فحص طبي، فضلًا عن التعامل مع كمٍّ هائل من المهام الإدارية المتراكمة.
هذا الواقع -وفقًا لتجربة كيلي- لم يترك مجالًا للتواصل الإنساني العميق الذي يعد جوهر العلاقة بين الطبيب والمريض. فعوضًا عن الاستماع المتأني والمتابعة المستمرة بات الوقت هو العائق الأكبر أمام تقديم رعاية صحية شاملة.
ومن هنا أصبح الإرهاق الوظيفي للأطباء نتيجة حتمية لهذا الضغط المستمر. وهو ما ينسجم مع تجارب آلاف الأطباء حول العالم الذين يعانون من تراجع الرضا الوظيفي وارتفاع مستويات الإجهاد النفسي.
الطموح الإنساني يصطدم بالواقع
لطالما آمن كيلي بأن الطب لا يقتصر على التشخيص والعلاج فحسب، بل يمتد ليشمل فهم الخلفيات الاجتماعية والعائلية للمرضى. وبناء علاقة طويلة الأمد قائمة على الثقة والمتابعة. غير أن هذا التصور المثالي اصطدم بواقع مؤسسي يركز على الكفاءة الزمنية والإنتاجية العددية.
وفي هذا السياق وصف تجربته بأنها مواجهة مباشرة مع «إرهاق لا يصدّق». وهو توصيف يعكس حجم الضغوط التي يتعرض لها الأطباء في البيئات الصحية الحديثة.
ومع استمرار هذا التناقض بين القيم المهنية ومتطلبات العمل، بدأ كيلي التفكير جديًا في البحث عن حلول مبتكرة لمعالجة هذا الإرهاق بدلًا من الاكتفاء بالتكيف معه.

الذكاء الاصطناعي كأداة لتخفيف العبء
وانطلاقًا من هذه المعاناة اتجه كيلي نحو توظيف الذكاء الاصطناعي لتقليل الأعباء الإدارية التي تستنزف وقت الأطباء. فكانت الفكرة الأساسية تتمثل في تطوير أداة قادرة على تفريغ الزيارات الطبية تلقائيًا، وإنشاء الملاحظات السريرية، وتنظيم الوثائق الطبية بكفاءة عالية.
وفي هذا الإطار أسس كيلي شركة Heidi، وهي منصة ذكاء اصطناعي تعمل ككاتب طبي رقمي. تهدف إلى إعادة توجيه وقت الأطباء نحو المرضى بدلًا من الأعمال الورقية. وعلى الفور لاقت هذه الفكرة اهتمامًا متزايدًا في الأوساط الطبية والاستثمارية.
وفي أكتوبر 2025 أعلنت الشركة إغلاق جولة تمويل من الفئة B بقيمة 65 مليون دولار، لترتفع قيمتها السوقية إلى 465 مليون دولار. في مؤشر قوي وواضح على الطلب المتزايد على حلول تعالج الإرهاق الوظيفي للأطباء باستخدام التكنولوجيا.
من الإلهام المبكر إلى التأسيس الأكاديمي
نشأ توماس كيلي في مدينة ملبورن الأسترالية؛ حيث كان لطبيبه في الرعاية الأولية دور محوري في تشكيل وعيه المهني. إذ مثّل ذلك الطبيب نموذجًا يجمع بين المعرفة الطبية العميقة والقدرة على التواصل الإنساني. وهو ما ترك أثرًا طويل الأمد في شخصية كيلي.
وخلال سنواته الجامعية لم يقتصر اهتمامه على الطب وحده، بل شمل مجالات أخرى مثل: الرياضيات وعلوم الحاسوب. ما أسهم لاحقًا في تشكيل رؤيته متعددة التخصصات. وفي عام 2013 التحق بجامعة ملبورن لبدء دراسة الطب رسميًا.
وبالتوازي مع ذلك أطلق كيلي نشاطًا تعليميًا عبر منصة يوتيوب. إضافة إلى تقديم دروس خصوصية لطلاب يرغبون في دخول كليات الطب، وهو ما شكّل نواة أولى لريادة الأعمال في مسيرته.
التجربة التي مهّدت للانطلاق
وفي إطار تنظيم وقته بدأ كيلي بتطوير أداة ذكاء اصطناعي تعليمية أطلق عليها اسم Oscar، تتيح للطلاب محاكاة المقابلات الطبية والتدرب عليها. وبحلول عام 2020 بلغ عدد مستخدمي الأداة نحو 20,000 طالب.
ومع تطور Oscar أدرك كيلي أن قدرة الذكاء الاصطناعي على فهم الحوار الطبي يمكن توسيعها لتشمل الممارسة السريرية الفعلية. فالمحادثة بين طبيب ومريض، رغم تعقيدها، تظل في جوهرها حوارًا يمكن تحليله ومعالجته تقنيًا.
ومن هنا بدأت فكرة Heidi بالتحول من مشروع تعليمي إلى حل عملي واسع النطاق لمعالجة الإرهاق الوظيفي للأطباء.
قرار الانفصال عن الطب
وبحلول عام 2021.وجد كيلي نفسه أمام مفترق طرق حاسم: إما الاستمرار في مساره الطبي وبدء تدريب تخصص جراحة الأوعية الدموية. أو التفرغ بالكامل لتطوير مشروعه التقني. وبعد مراجعة عميقة قرر مغادرة مهنة الطب نهائيًا.
وبرر قراره بقناعته بأنه سيشعر بندم دائم إذا لم يمنح نفسه فرصة التجربة. وأثبتت النتائج صحة هذا الرهان؛ إذ تحولت Heidi إلى شركة قوية جذبت ما يقرب من 100 مليون دولار من الاستثمارات. واليوم تستخدم المنصة لمساعدة الأطباء على تقليل الأعباء الإدارية، وتحسين كفاءة العمل السريري.
وتبرز قصة توماس كيلي كيف يمكن للتحديات المهنية أن تتحول إلى محفز للتغيير، حين تقترن بالرؤية والقدرة على الابتكار.
وفي عالم يشهد تصاعدًا غير مسبوق في الإرهاق الوظيفي للأطباء، تبدو الحلول التكنولوجية مثل: Heidi جزءًا أساسيًا من الإجابة عن سؤال مستقبل الطب؛ حيث تتقاطع الإنسانية مع الذكاء الاصطناعي في خدمة المريض والطبيب معًا.


