رصدت منطقة الشرق الأوسط خلال النصف الأول من عام 2025 تمايزًا لافتًا في المشهد الاستثماري، مقدمة بذلك دليلًا قويًا على قوة إقليمية ناشئة ومرونة اقتصادية. وفي هذا السياق كشفت البيانات الأخيرة عن اتجاهات متباينة لنشاط رأس المال الاستثماري عبر الأسواق الناشئة في الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب شرق آسيا.
وفي الإطار نفسه كشفت بيانات منصة MAGNiTT، وهي مصدر موثوق لتحليل اتجاهات المشاريع، عن تراجع إجمالي تمويل رأس المال الاستثماري المجمع عبر هذه الأسواق الناشئة. إذ سجلت هذه الأسواق تمويلًا إجماليًا بقيمة 3.98 مليار دولار في النصف الأول من عام 2025، الأمر الذي يمثل انخفاضًا طفيفًا نسبيًا بنسبة 7% على أساس سنوي.
تراجع الصفقات الضخمة
وأظهر التقرير تراجعًا في عدد الصفقات المبرمة؛ حيث سجلت الأسواق الناشئة 682 صفقة، بانخفاض نسبته 16% على أساس سنوي. كما شهدت الصفقات الضخمة (MEGA)، التي تتجاوز قيمتها 100 مليون دولار، انخفاضًا بنسبة 32%، لتصل قيمتها إلى 1.04 مليار دولار.
لكن الشرق الأوسط تحدى هذا الاتجاه الانكماشي السائد بوضوح لافت. فالمنطقة حققت تمويلًا بقيمة 1.35 مليار دولار، بزيادة بلغت 96% على أساس سنوي. مسجلةً كذلك ارتفاعًا في عدد الصفقات بنسبة 9% لتصل إلى 258 صفقة. ويؤكد هذا الأداء القوي مكانة المنطقة كمركز جاذب للتمويل.
تصدّر سنغافورة وتألق السعودية
وعلى الرغم من الانكماش العام تصدّرت سنغافورة الأسواق الناشئة من حيث إجمالي التمويل، مسجلة 1.28 مليار دولار. ومع ذلك شهدت البلاد انخفاضًا ملحوظًا بنسبة 37% على أساس سنوي. وهو ما يشير إلى تأثرها ببيئة التقلبات الاقتصادية العالمية.
وتأتي المملكة العربية السعودية في المرتبة الثانية من حيث قيمة التمويل المُستقطَب؛ حيث سجلت 860 مليون دولار، بزيادة ضخمة بلغت 116%. كما ارتفع عدد صفقاتها بنسبة 31% ليصل إلى 114 صفقة. ويبرز هذا النمو تحول المملكة إلى محرك رئيس لنشاط رأس المال الاستثماري في المنطقة.
ارتفاع التمويل في أفريقيا
سجلت القارة الأفريقية ارتفاعًا في التمويل بنسبة 56% على أساس سنوي، رغم عدم تسجيلها صفقات ضخمة “MEGA” تزيد قيمتها على 100 مليون دولار. ويظهر هذا النمو استمرار اهتمام المستثمرين بالفرص التكنولوجية والحلول المحلية في الأسواق الأفريقية.

أما قطاع التكنولوجيا المالية “FinTech” فلا يزال يهيمن على توزيع التمويل عبر جميع المناطق المشمولة بالدراسة. فاستأثر هذا القطاع بما يتراوح بين 38% إلى 45% من إجمالي التمويل. وهو ما يؤكد دوره كمحفز رئيس للابتكار الاقتصادي.
تحدي التقلبات العالمية
الوقت الراهن لا تزال فيه التقلبات العالمية تشكل تحديًا كبيرًا لتوزيع رؤوس الأموال ورفع معدلات المخاطر. هذا التحدي دفع العديد من المستثمرين لإعادة تقييم محافظهم الاستثمارية والبحث عن ملاذات أكثر استقرارًا.
ولا شك أن منطقة الشرق الأوسط، المدعومة بالصناديق السيادية القوية، واستقرار السياسات الحكومية، وشركات السيولة المحلية العميقة، أصبحت منارة واضحة لنشاط رأس المال الاستثماري عبر الأسواق الناشئة. ويعكس هذا الدور قوة اقتصادية متنامية وموثوقية متزايدة.
دور الصناديق السيادية ومناخ الريادة
أدت الصناديق السيادية الخليجية دورًا محوريًا وبالِغ الأهمية كداعم إستراتيجي للاستثمار في الشركات الناشئة، سواء على الصعيد المحلي أو الإقليمي. ومنح هذا الدعم الحكومي القوي قطاع ريادة الأعمال متانة ومرونة ملحوظة؛ ما ساعده على الصمود في وجه التقلبات الاقتصادية الكبرى التي شهدها العالم.
ويتميز مناخ الريادة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الآن بنضج متزايد وملحوظ. ويأتي ذلك مدعومًا بوجود بنى تحتية تكنولوجية متطورة، إضافة إلى شريحة واسعة من الشباب المتعلم والمؤهل. فضلًا عن طلب متنامٍ على الحلول والخدمات الرقمية، وكلها عوامل متضافرة تزيد بقوة من جاذبية المنطقة أمام المستثمرين العالميين.
تباين الأداء مع الأسواق العالمية
يشير تباين الأداء الإقليمي لريادة الأعمال مع الأسواق العالمية، التي تعاني من تشديد نقدي واضح وارتفاع مستمر في أسعار الفائدة، إلى أن المستثمرين العالميين يجدون في منطقة الشرق الأوسط فرصة قوية للتحوط ضد المخاطر الكلية المنتشرة في الغرب. ويؤكد هذا التباين مكانة المنطقة كملجأ آمن لرؤوس الأموال الباحثة عن الاستقرار والنمو.
ولا تزال إمكانية النمو المستقبلية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هائلة وغير مستغلة بالكامل. ويؤسس ارتفاع معدلات التمويل، لا سيما خلال المراحل المبكرة والمتوسطة من عمر الشركات، لجيل جديد من الشركات التكنولوجية الطموحة. والتي قد تتحول إلى “يوني كورن” ذات قيمة مرتفعة جدًا في المستقبل القريب.


