في تحوّل لافتٍ يختصر مسيرة الذكاء الاصطناعي الحديثة، يبرز إدوين تشين كقصة نجاح غير تقليدية بامتياز. فقد انطلق عالم البيانات هذا بهدوء ليصبح أصغر ملياردير في قائمة فوربس لأغنى 400 أميركي، الأمر الذي يمثل قفزة نوعية في عالم ريادة الأعمال. هذا الإنجاز، لا يكمن فقط في حجم ثروته التي تجاوزت المليارات، بل أيضًا في طريقته المبتكرة في بناء شركته Surge AI، والتي لم تسر على درب وادي السيليكون التقليدي المعتاد.
ومن ثم، أثبت “تشين” بما لا يدع مجالًا للشك أن التمويل الذاتي الصارم والرؤية الواضحة يمكن أن يخلقا قوة محورية في القطاع التقني. فشركته أصبحت اليوم تعتمد على أرقى العقول البشرية -بدءًا من أساتذة جامعات مرموقة وصولًا إلى جيش من العمال الأذكياء- لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي وتشكيل مستقبل هذه الصناعة. وبذلك، بات تشين وشركته لاعبًا لا يمكن تجاهله في تحديد مسار التقنية القادمة.
الحياة المبكرة والتعليم
وُلد إدوين تشين في الثامن عشر من أغسطس عام 1988م، ونشأ عالم البيانات هذا في مدينة كريستال ريفر بولاية فلوريدا. وهي مدينة صغيرة تعرف بكونها وجهة للمتقاعدين أكثر من كونها منبعاً لمليارديرات التكنولوجيا.
وبالنظر إلى خلفيته، كان والداه -وهما مهاجران من تايوان- يديران مطعمًا متواضعًا؛ حيث اعتاد “تشين” العمل والمساعدة فيه في سنوات مراهقته الأولى.

ومع ذلك، لم تكن شهيته الحقيقية للطعام، بل كانت موجهة نحو اللغات والرياضيات والروابط العميقة بينهما.
وفي هذا الصدد، يقول “تشين”: “كنت دائمًا مفتونًا بالأسس الرياضية للغة”. ومن هنا، كان يحلم بتعلم عشرين لغة، وشارك بحماسة في مسابقات التهجئة.
أما بالنسبة للرياضيات، فلم تأسره فعليًا إلا حين بدأ يلاحظ الأنماط المميزة، وخصوصًا الرقم ثلاثة، الذي وجده حاضرًا في كل شيء؛ ما شكل بدايات فضوله المعرفي الذي قاده لاحقًا إلى الذكاء الاصطناعي.
المنح الدراسية واختصار المراحل
بعد أن درس التفاضل والتكامل في الصف الثامن، حصل “تشين” على منحة دراسية كاملة غطت آخر عامين له في المدرسة الثانوية في مدرسة Choate العريقة بولاية كونيتيكت. وبمجرد أن أنهى المقررات المتقدمة في الرياضيات هناك، قضى معظم سنته الأخيرة منغمسًا في أبحاث متفرقة تحت إشراف أساتذة من جامعة ييل كانوا يدرّسون في المدرسة.
وفي مرحلة لاحقة، انتقل تشين إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)؛ حيث تخصص في الرياضيات. ولتجسيد أسلوب حياته غير التقليدي وتوجهاته التجريبية، جرَّب نظام النوم متعدد الفترات أثناء دراسته.
واللافت للنظر أنه بعد ثلاثة أعوام فقط من بدء الدراسة، التحق تشين ببرنامج تدريبي في صندوق التحوط الخاص بالملياردير بيتر ثيل في سان فرانسيسكو. وعليه، لم يعد إلى الدراسة، وحصل على شهادته رسميًا بعد عامين لاحقًا. مؤكدًا بذلك مساره المهني السريع والمختلف عن المسار الأكاديمي التقليدي.
المسيرة المهنية
جاءت محطات “تشين” المهنية الأولى في كبريات الشركات التقنية، وتحديدًا “تويتر”، و”جوجل”، و”فيسبوك”؛ حيث شغل مناصب مختلفة تركزت حول خوارزميات التوصية.
وخلال عمله، واجه المشكلة نفسها التي أرَّقته باستمرار: الصعوبة البالغة في الحصول على بيانات بشرية عالية الجودة وبمقياس ضخم. ونظرًا لتفاقم هذا التحدي وتحوله إلى عقبة مركزية، قرر “تشين” في عام 2020 أن يغادر آخر وظيفة له في “تويتر” وأن يؤسس شركته الخاصة Surge AI لحل هذا اللغز المعقد بشكلٍ جذري.
من ناحية أخرى، أظهر إدوين تشين استقلالية فكرية برفضه السير في دروب رأس المال المغامر التقليدي. وفضلًا عن ذلك، آثر أن يموّل شركته ذاتيًا من مدخراته الخاصة، رافضًا ما أسماه “لعبة المكانة” في وادي السيليكون. والتي يصفها بأنها مجرد “مخططات للثراء السريع”.
ونتيجة لهذا النهج، لا تضم شركة Surge سوى 250 موظفًا فقط بين دائمين وبدوام جزئي ومستشارين. ومع ذلك، حققت إيرادات تتفوق على منافسين لديهم عدد موظفين أربعة أضعاف. مؤكدًا بذلك نجاعة نموذج الكفاءة على حساب التوسع المفرط.
الإنجازات والأرقام
في عام 2024، وبعد أقل من خمس سنوات فقط على تأسيسها، حققت Surge إنجازًا ماليًا لافتًا؛ إذ بلغت إيراداتها المذهلة 1.2 مليار دولار.
وجاء هذا النجاح بدعم من قائمة عملاء بارزين تضم عمالقة مثل: “جوجل”، و”ميتا”، و”مايكروسوفت”. بالإضافة إلى مختبرات الذكاء الاصطناعي الكبرى.
علاوة على ذلك، تؤكد الشركة -على لسان مؤسسها إدوين تشين- أنها كانت مربحة تقريبًا منذ يومها الأول. وبناءً على هذه الأرقام، تقدر قيمة الشركة السوقية بنحو 24 مليار دولار.
وفي المقابل، أثمر قرار “تشين” بتمويل شركته ذاتيًا ثروة شخصية هائلة. حيث تقدر حصته البالغة نحو 75% بـ 18 مليار دولار. هذا الإنجاز جعله أغنى الوافدين الجدد على قائمة فوربس لأغنى 400 أمريكي. وأصغرهم سنًا بعمر السابعة والثلاثين.
وبذلك، لا تعكس هذه الثروة الضخمة مجرد القيمة السوقية لشركته. بل تمثل انتصارًا واضحًا لنموذج العمل الذي يضع الأولوية للجودة والكفاءة على حساب النمو المدفوع بالتمويل المفرط.
التحديات والصراع على المستقبل
وتتبع Surge نهجًا هجينًا رائدًا يعرف بـ “الإنسان في الحلقة”. ففي هذا النظام، يتولى الذكاء الاصطناعي مهمة إنشاء البيانات وتصنيفها. بيد أن التدخل البشري يظل حاسمًا لتقييم الأداء وتصحيح المسار بشكل دائم. الأمر الذي يضمن جودة البيانات الاستثنائية. ومع ذلك، يواجه هذا النموذج تحديًا وجوديًا حقيقيًا؛ لا سيما مع التقدم المتسارع للذكاء الاصطناعي، الذي بات يعتمد بشكل متزايد على البيانات الصناعية المنشأة ذاتيًا بواسطة الذكاء الاصطناعي نفسه.
وفي سياق آخر، يواجه نموذج تشغيل العاملين بالساعة لدى الشركة تحديات قانونية جمّة. حيث تواجه Surge حاليًا دعاوى قضائية جماعية تتهمها بإعادة تصنيف خاطئة للعمال كمتعاقدين مستقلين. ذلك بهدف التهرب من دفع المزايا.
وبناءً عليه، يظل هذا الجدل مفتوحًا حول أخلاقيات التوظيف في هذا القطاع سريع النمو. ورغم كل هذه التحديات، وبالرغم من فقدانها لبعض العملاء الرئيسيين الذين فضلوا نقل عمليات وسم البيانات إلى الداخل، تبقى Surge، بنموذجها الصارم الذي يركز على الجودة، لاعبًا أساسيًا ومحوريًا في المشهد المستقبلي للذكاء الاصطناعي.

الوضوح يقود الثروة
في نهاية المطاف، تشكّل قصة نجاح إدوين تشين وشركته Surge AI شهادة حية على قوة الوعي الكامل والانضباط الفكري والشخصي. فبينما يؤكد “تشين” أن صفاء الذهن وتأملات تجواله في شوارع نيويورك هي منبع أفضل أفكاره. يظل طموحه الأكبر هو توجيه مسار صناعة الذكاء الاصطناعي نحو نموذج يرتكز على الأخلاق والجودة بالدرجة الأولى.
وعلى هذا النحو، فقد غير “تشين” قواعد اللعبة بقراره الجريء برفض التمويل عبر رأس المال المغامر التقليدي. وبدلًا من ذلك، شيد نموذجًا فريدًا يولي الأولوية للاستثمار في أرقى العقول البشرية. متجاوزًا الاكتفاء بالبنية التحتية الرخيصة.
ولذلك، تبقى Surge AI -بما لديها من شراكات إستراتيجية مع عمالقة التكنولوجيا وبما تواجهه من تحديات- قصة محورية ومثالًا بارزًا في الصراع المستمر بين الجودة والتكلفة. وهو الصراع الذي سيحدد بلا شك مستقبل الذكاء الاصطناعي.


