مشهد غير معتاد داخل الطائرتين المتجهتين من القاهرة إلى جدة غرب السعودية؛ حيث كان أعمار الركاب يتراوح تقريبًا بين العشرين والثلاثين عامًا. معظمهم التقوا قبل ذلك بالدراسة، أو العمل، أو بمناسبات مرتبطة بتقنية المعلومات والاتصالات.
الكل ذاهب، ويملؤه كثير من البهجة والأمل والتفكير بالفوز بهاكاثون الحج الذي نظمه الاتحاد السعودي للأمن السيبراني والبرمجة والدرونز بالتعاون مع جهات أخرى.
وكلمة هاكاثون Hackathon هي اختصار لكلمتين بالإنجليزية؛ هما: Hack البرمجة الاستكشافية، وMarathon السباق؛ أي حدث يجتمع فيه مُبرمجو الكمبيوتر والمطورون ومصممو الجرافيك والواجهات والمرشدون Mentors، ومديرو المشروعات، وغيرهم، فيتشاركون بشكل مكثّف في تطوير مشاريع برمجية Software في موضوع ما. وكونهم جاءوا من مناطق مختلفة من العالم، فمن المرجح أن يخلق ذلك فرص تعاون ستستمر وتُثمر مستقبلًا.
نحو ثلاثة آلاف مشارك من أكثر من خمسين دولة، وقع عليهم الاختيار من أكثر من عشرين ألف طلب مشاركة من شتى أرجاء العالم، في هاكاثون اختارته موسوعة جينيس للأرقام القياسية كأكبر هاكثون من حيث عدد المشاركين في هاكاثون بالعالم؛ ليحطم رقمًا قياسيًا سابقًا كان مسجلًا باسم الهند، التي كانت استقبلت 2577 مشاركًا خلال مسابقة تقنية عام 2012.
شملت المنافسة في هاكاثون الحج، المجالات المحيطة بموسم الحج وخدماته وتحدياته، بما فيها الأغذية والمشروبات، والصحة العامة، والحلول المالية، والمواصلات، وإدارة الحشود، والتحكم في حركة المرور، وترتيبات السفر والإقامة، وإدارة النفايات والمخلفات، والإسكان، وحلول التواصل بين الحجيج والمسؤولين.
فاز بالمركز الأول فريق “ترجمان”، المكون من أربع شابات سعوديات، طورن تطبيقًا متخصصًا للحجاج والمعتمرين، يترجم اللوحات الإرشادية في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة إلى اللغات المختلفة دون الحاجة إلى الاتصال بالإنترنت؛ حيث حصل على جائزة قدرها مليون ريال.
وحصد المركز الثاني فريق مصري بجائزة قدرها نصف مليون ريال؛ لتطبيق “محفظة الحاج” التي تقوم على إنشاء محفظة إلكترونية للحجاج، فلا يضطرون إلى حمل أموال في جيوبهم يخشون ضياعها أو سرقتها، فيلجأ الحاج إلى أقرب مركز تحويلات ويحول مبلغًا ماليًا معينًا إلى محفظته، وحينها يصبح قادرًا على التعامل ماليًا مع عدة متاجر ومطاعم وإدارات بشكل إلكتروني. وفي حال تعرض الهاتف للسرقة مثلا، فلن يتمكن السارق من دخول حساب المحفظة الإلكترونية، بل بإمكان صاحبها التأكد من سلامة أمواله من أي هاتف آخر.
كان المركز الثالث من نصيب تطبيق “رؤى” لفريق من الجزائر بجائزة قدرها 350 ألف ريال؛ حيث يساعد التطبيق عائلات الحجاج على معرفة مكان الحاج دون الاتصال به، كما ينقل ويوثق مشاعر الحجاج في أيام الحج للعالم أجمع، فيما نال تطبيق “الإلكترونية” في إدارة وتفويج مخيمات الحجاج إلكترونيا جائزة التميز، وقدرها 150 ألف ريال.
الزخم الإعلامي الذي صاحب هاكاثون الحج، والنتائج الإيجابية التي انبثقت عنه، ستُحفز جهات أخرى لدعم نفس التوجه، فعقب انتهائه أعلنت رئاسة شؤون الحرمين عن رصد مكافأة لكل من يساهم في بناء تطبيق إلكتروني يخدم قاصدي الحرمين الشريفين، كما تم تقديم جوائز واستثمارات بعشرات الملايين للمشاريع المتميزة؛ حيث أعلن برنامج بادر لحاضنات ومسرعات التقنية عن دورة مصممة خصيصًا لتطوير نحو خمسين مشروعًا من مخرجات الهاكاثون.
وخصص بنك التنمية ثلاثين مليون ريال للمشاريع الناشئة الريادية في هاكاثون الحج؛ كتمويل من دون فائدة للمشاريع ذات الجدوى الفنية والاقتصادية العالية التي تخدم تطوير حلول، أو اكتشاف فرص نوعية لتطوير قطاع الحج والعمرة.
أدعو القائمين على تنظيم البرامج التدريبية بمجال ريادة الأعمال في كل البلدان العربية أن يختتموا هذه البرامج بمنافسة بين المشاركين لاختيار الأفكار والمشروعات الواعدة بمعايير وأهداف محددة؛ كأن تسعى هذه الأفكار لحل مشاكل مجتمعية أو تلبي احتياجات حقيقية للأسواق، أو تحل محل منتجات أو خدمات مستوردة يمكن تصنيعها أو توريدها محليا، من خلال فرق تقدم أفكارها عبر أسلوب الـ Pitching؛ لتكون هذه المنافسة إضافة مهمة للبرامج التدريبية؛ حيث تفرز أفكارًا واقعية ومفيدة، يمكن تمويلها بالوسائل المتاحة؛ منها مشاركة الجهة التمويلية نفسها بحصص في المشروعات الوليدة على سبيل المثال.
ما أود التأكيد عليه أن كنوز أفكار الشباب في العالم العربي تبحث عمن يكتشفها، فتنظيم مثل هذه المسابقات والمنافسات، من شأنه اكتشاف العالم الرحب من المواهب والطاقات الإبداعية، وخلق فرص الازدهار والمنافسة.
لدينا الملايين من الشباب الطموح الذين لديهم أفكار جادة ومُلهمة، يمكنهم – من خلال ريادة الأعمال – تحويلها إلى مشاريع ناجحة، كما أن مثل هذه المنافسات تُسهم في تدريب أصحاب الأفكار وإرشادهم وتوجيههم وتعريفهم بالمستثمرين والممولين وبناء علاقات عمل، ليكونوا جميعًا فائزين.
إن كل فكرة تحمل معها قصة عظيمة من التميز، وتكشف قدرات الشباب على الإبداع واستحداث مشروعات، تسهم في بناء اقتصاد قوي يعتمد على العقول النيرة لصفوة أبنائه.