العزلة شرط أساسي لإبداع الفنان، وإذكاء موهبته، ومن ثم كان كل الفنانين يهرعون إلى العزلة كي يتمكنوا من نقل ما يعتمل في داخلهم من أفكار، وما يمليه عليهم خيالهم على لوحات، وإذا كانت العزلة، فيما مضى، خيار طوعي يلجأ إليه الفنانون للعمل والإبداع، فإنها الآن، نظرًا للحجر الصحي وإجراءات التباعد الاجتماعي، أمست ضرورة وفرضًا، ومن ثم أتت فكرة معرض فن العزلة الذي أطلقته وزارة الثقافة، وهو أول معرض افتراضي في المملكة.
ويأتي المعرض الافتراضي الأول في المملكة بمبادرة من مجموعة «ميادين» وبدعم من وزارة الثقافة؛ وبشراكة حصرية مع شركة الاتصالات السعودية STC.
اقرأ أيضًا: 5 روايات تساعدك في تطوير الذات
«فن العزلة» من الداخل
الفن أبعد ما يكون عن التسلية، الفن الحقيقي لا يقتصر دوره على مجرد التسلية وتزجية الوقت، إنه مخاطبة للوجدان الإنساني، ونداء لكل واحد منا ليتعرف على روحه، ويعثر على أسباب شقائه الحقيقية، ومن ثم يحاول الحصول على علاج لها عبر لوحة أو فنان ما.
الفن ابن بيئته، فهذه البيئة وذاك الواقع المحيط هو المادة الخام التي يستلهم الفنان منها أفكاره، وهي الزند الذي ينقدح منه زند الخيال، ومعرض فن العزلة لم يكن بعيدًا عن ذلك؛ حيث أتت أعمال الفنانين المشاركين في المعرض، مثل الفنان القدير عبد الرحمن سليمان؛ معبرة عن هذه البيئة التي يجري العمل فيها.
ففي عمله «صحراء» بدا الفنان متأثرًا بالظروف الطبيعية والتضاريسية للمملكة، فأتت الصحراء تعبيرًا عن انتماء الفنان لهذه الطبيعة الخصبة، واعترافًا منه بإلهامها له.
أما الفنانة فاطمة النمر فكانت أكثر تأثرًا بالتراث؛ إذ حاولت أن تلتقط منه مشاهد أو حتى أجزاء من الثقافة الشعبية وتنقلها إلى لوحاتها، رأينا ذلك على سبيل المثال في أعمالها: «غطوة»، «البقشة»، «سفة»، وحتى «نبعة الريحان» كانت سائرة في السياق نفسه. وقد انضوت كل هذه الأعمال تحت لواء معرض فني فرعي سُمي بـ “عزلة الاحتراف”.
وضمن معرض “عزلة فنان” تأتي لوحة عبير مسفر الغامدي للملك سلمان حفظه الله، تحت عنوان “سمعًا وطاعة” وتظهر اللوحة خشوع الملك في دعائه، تعبيرًا عن طاعته لله، وإلماح أيضًا إلى سمع الشعب وطاعته له.
أما شيماء حمد أبو عيسى فقد قررت تقديم لوحة لولي العهد الأمير محمد بن سلمان أيده الله، في حين ذهبت العنود الجهيني إلى ضرورة رابط الحاضر بالماضي، وإلى التعبير عن كون تاريخ المملكة سلسلة متواصلة من النجاح والعطاء، فرسمت لوحة للملك عبد العزيز رحمه الله.
عزلة التجريد أو تجريد العزلة
وقد كان للتجريد حضور في معرض فن العزلة الافتراضي؛ إذ ضم المعرض تجميعة فنية تحت عنوان “عزلة تجريدية” قدم فيها فنانون تشكيليون أعمالًا تجريدية ذات مستوى فني رفيع، منها على سبيل المثال عمل سهام آل جبران الموسوم بـ “وعي اللاوعي”، أما أبرار العدوان فقد نظرت إلى فن البالية نظرة تجريدية، وقدمت لنا نظرتنا تلك في عملها “راقصة البالية”.
بيد أن قصي العدواني قد أمعن في التجريد، فقدم لنا لوحة فنية بديعة ولم يعنونها، ولعله يؤمن _ كما يؤمن ما بعد الحداثيين_ بفكرة موت المؤلف، فمنذ تلك اللحظة التي ينتهي فيها الفنان من عمله لا يعود العمل ملكًا له، وإنما سيكون تأويله حق مكفول لجميع المتلقين، ومن ثم يمكن النظر إلى العنوان على أنه سطو على حق المتلقي في التأويل.
اقرأ أيضًا: استكشف المملكة.. رحلة بين عراقة الماضي وعصرية المستقبل
أما أعمال الفنانة نجود ماجد _ لوحة “وباء” على سبيل المثال _ فأتت محاكية للواقع الحالي ومعبرة عنه، أما الفنانة مها الزهراني فالتقطت ملحمًا من ملامح العزلة الراهنة، وظهر ذلك في لوحتها “مكالمة الحجر الصحي”؛ حيث تم التعبير عن مشاعر أولئك القلقين على ذويهم عبر تقسيمات الوجه ببراعة منقطعة النظير. وهناك لوحة أخرى بعنوان Stay Home تعبر عن ملمح آخر من ملامح الحجر الصحي، وإجراءات العزلة الحالية.
وعبرت فهدة الشلهوب؛ في لوحتها «موناليزا 2020»، عن تحول في النسق الفني؛ إذ صورت الموناليزا وهي ترتدي كمامة. يعني هذا كله أن الفن كله ليس بعيدًا عن معاناة الناس ولا آلامهم؛ وإنما هو شريكهم فيها وطبيبهم كذلك.
اقرأ أيضًا: «الترفيه الافتراضي».. ثورة جديدة في زمن «الكورونا»
الفنان في عزلته
في رواية «صيف كلسنكر الأخير» يصور الروائي الألماني الشهير «هيرمان هسه» بطله «كلسنكر» وهو متوحد مع ذاته، منغمس في لوحاته، لا يرافقه في عزلته الصاخبة تلك سوى خادمه، والذي لم يكن، بالمناسبة، يراه لساعات طوال؛ فليس لدى الفنان وقت، إنه غارق في فنه.
وحتى وإن خرج للتنزه أو لقاء أصحابه لم يكن فنه يغادره أبدًا، وإنما كان يحمل في جيبه مفكرته الصغيرة، ليخطط فيها الأفكار التي طرقت باب عقله.
عزلة الفنان هنا هي عزلة صاخبة جدًا _إن جاز لنا أن نقتبس عنوان رواية بوهوميل هرابال_ فعلى الرغم من أنه وحيد في بيته أو مرسمه أو كهفه الصغير إلا أنه ممتلئ تمامًا، ثري تمامًا، بما لديه من أعمال، وما يُعتمل في رأسه من أفكار.
اقرأ أيضًا: 5 أفلام رسوم متحركة ترفع شعار “لا للمستحيل”
حين تكون العزلة دواء
يأتي معرض فن العزلة والأرواح كسيرة، أضناها الخوف، وأرهقها الألم والقلق والهلع، ليدواي الجراح، ويضمد الآلام، ويعالج ذاك الخلل الذي اعترى الروح. الفن علاج، ليس هذا شعار مدرسة فكرية أو جماعة ثقافية/ فنية، وإنما هي حقيقة، يدركها كل من آوى إلى الفن ولجأ إليه في وقت محنته وشدته.
لدى أوليفيا لاينغ كتاب شهير ذائع الصيت هو «المدينة الوحيدة.. مغامرات في فن البقاء وحيدًا» وكتبته عندما كانت رازحة تحت نيّر وحدة لا ترحم، وتعرضت لنكبات شتى، لكن اللافت في الأمر أن لوحات Edward Hopper؛ خاصة تلك اللوحة الشهيرة Nighthawks وبالطبع غيرها من اللوحات، وغيره من الفنانين والمصورين الآخرين. لم يكن لـ أوليفيا لاينغ من علاج سواها، وربما هذا هو أيضًا سبب إطلاق معرض فن العزلة .
اقرأ أيضًا:
طارق التركي لـ”رواد الأعمال”: سأطلق قريبًا مشروعًا لتصوير جميع مناطق السعودية
The Pursuit of Happyness ومغامرة اكتشاف الذات
الفنان راكان كردي لـ«رواد الأعمال»: حصلت على 32 جائزة.. وأطمح للمشاركة بالمعارض الدولية