«لو رأينا أنفسنا بأعين الآخرين لاختفينا على الفور» هكذا قال إميل سيوران؛ أحد أشهر الفلاسفة المعاصرين، لكن الواقع أننا لا نرى أنفسنا إلا بأعين ذواتنا؛ فنحن منخرطون على الدوام في صناعة الصورة الذاتية الخاصة بنا لدى أنفسنا قبل الآخرين.
والمؤسف في أمر كهذا _أعني فيما نسميه وهم صناعة الصورة الذاتية_ أن المرايا الذاتية خادعة ولا تعكس شيئًا من الحقيقة؛ ففي حين يراك الآخرون، على سبيل المثال، شخصًا متوسط القدرات محدود المواهب ترى أنت نفسك شخصًا خارقًا للعادة متعدد المواهب.
واللافت أن صناعة الصورة الذاتية بشكل ممنهج ومطرد يعمل على رسم صورة خيالية غير موجودة وجعلها واقعًا قائمًا، من هنا تظهر إمكانية رسم الصورة الذاتية في قلب الحقائق، وصنع عالم متوهم وبديل لا وجود له على أرض الواقع.
اقرأ أيضًا: 5 دروس حياتية تعلّمها قبل فوات الأوان
خيالية صناعة الصورة الذاتية
صناعة الصورة الذاتية، من حيث الأصل، نوع من الكذب، فأنا أكذب طوال الوقت لكي أقنع الوسط المحيط بي بأنني هذا الشخص الذي أحاول أن أظهر به، أنني شخص جيد، ناضج، مخلص.. إلخ.
لذا؛ فمن الممكن الدفع بأن صناعة الصورة الذاتية نوع من التمني _طالما فهمنا أن الكذب تمنى، وأن الكاذب هو بطل حكايته الشخصية_ فأنا أتمنى بيني وبين نفسي أن أكون هذا الشخص الذي أحاول صناعة صورة ذاتية له لدى الآخرين.
والمؤسف أن صناعة الصورة الذاتية تصدنا عن أن نطور من أنفسنا، عن أن نكون أفضل؛ فنحن مشغولون بالكيفية التي يرانا بها الآخرون، ولا وقت لدينا لفعل أي شيء آخر سوى الظهور بمظهر جيد، وإرضاء الجميع، وتلك، كما هو معلوم، غايات لا تُدرك أبدًا.
وأشد الأشياء أسفًا أن صناعة الصورة الذاتية لا تتم إلا بعد أن يصدق الشخص الكاذب كذبه، عندئذ يكون تطوره محالًا، لماذا أصلًا سيطور من نفسه طالما أنه صدّق تلك الصورة المزيفة التي صنعها عن نفسه؛ هو يصدق أنه مخلص، طيب، ونبيل، فلماذا إذًا سيفعل أي شيء ليكون جيدًا بالفعل؟!
اقرأ أيضًا: الشخصية القوية.. ما هي صفاتها؟
الإلحاح والتكرار
لكن السؤال هنا الذي يجدر بنا طرحه هو: كيف يتم صناعة الصورة الذاتية؟ أي ما هي الطرق التي يتبعها المزيفون لكي يظهروا بعكس حقيقتهم؟ والواقع أنه ما من شيء متبع لتحقيق هذه الغاية من الإلحاح الشديد وكثرة التكرار.
فأنا، بصفتي شخصًا مزيفًا، على سبيل المثال، لا أكف عن تكرار أني شخص حقيقي وصادق وما إلى ذلك، بهذه الطريقة ترى أن الفكرة ترسخت بالفعل في أذهان الناس الذين يقصدهم برسالته ويتوجه بالحديث إليهم.
هذا المبدأ _اكذب حتى يصدقك الناس_ معروف ومتداول بكثرة منذ أيام جوبلز؛ لكن اللافت هنا أن مثل هؤلاء الأشخاص لا يقوون على سماع الحقيقة ولا حتى على التلفظ بها، إن أكثر ما يرعبهم هو الحقيقة، وحقيقتهم الشخصية بالتحديد.
اقرأ أيضًا: خطوات مهمة لتطوير الذات.. كيف تخوض رحلة التغيير؟
الاغتراب الذاتي
سوى أننا يمكن، ومن زاوية ما، اعتبار أن هؤلاء الأشخاص المفرطين في صناعة الصورة الذاتية الخاصة بهم والظهور بمظهر معين في المجتمع الذي يتواجدون فيه، مغتربون عن أنفسهم.
بيد أننا يجب أن نفهم الاغتراب ليس بالمعنى الذي طرحه جورج لوكاتش في كتابه «التاريخ والوعي الطبقي» بما هو: «صراع بين الفرد وأبعاد وجوده»، وإنما باعتباره شقاقًا بين الفرد وذاته.
إن هؤلاء المزيفين مغتربون عن كل شيء فيهم، حتى صفاتهم الحسنة؛ إذ تجاوزوا كل هذا أو نسوه أثناء انخراطهم في وهم صناعة الصورة الذاتية عن أنفسهم والآخرين.
كان جديرًا بالمرء أن يؤوب إلى نفسه، ويفعل ما يراه صوابًا، ويتصالح مع نقاط ضعفه ويحاول العمل عليها وإصلاحها، بهذه الطريقة وحدها سنضمن لأنفسنا الترقي والتطوير الدائم لذواتنا.
اقرأ أيضًا: أهمية تعزيز الثقة بالنفس.. المواجهة وتجاوز الصعاب
الأوهام الذاتية
آخر شيء يمكنك الانخراط فيه هو مناقشة شخص حول أوهامه الذاتية؛ فعندما أتصور أنني شخص فريد لا مثيل لي ولا نظير، أو عندما أطلق حكمًا عامًا لا أساس منطقي له، فمن غير المجدي مناقشتي في مثل هذه الأمور، فهي أمور ينعقد عليها القلب ولا يكون للعقل فيها يد ولا سلطان.
صحيح أن الأوهام الذاتية مفيدة؛ فبالوهم الماتع يمكنك احتمال الألم الفاجع، لكن ثمة شرط واحد وهو أن تكون واعيًا بأوهامك، أن تكون مدركًا أنها غير حقيقية، ولكنك تجنح إليها لاحتمال فجاعة العالم وبشاعة الوجود.
لكن، وهذا ما نبغي قوله هنا، صناعة الصورة الذاتية لا يمكن اعتبارها وهمًا ذاتيًا، ليس لأن أصحابها صدقوها وآمنوا بمخرجاتها، وإنما لأنهم لم يدركوا منذ بداية اللعبة أنهم يزيفون الواقع، ويرسمون صورة في الفراغ أو على الماء، سرعان ما تتلاشى وتزول.
اقرأ أيضًا:
التعامل مع المدراء في العمل.. ذكاء وحنكة
6 مستويات لأهمية مهارات العرض التقديمي