الدكتور المهندس عبدالعزيز بن تركي العطيشان رجل متعدد الاهتمامات، ويمثل نموذجاً ريادياً يستحق التمثل والاقتداء، فهو يطرح أفكاره ومبادراته بوضوح، ويلح على تحقيق ما يؤمن به، حتى لو اقتضى الأمر السباحة ضد التيار.
تبدو علاقته بمفهوم الهندسة القيمية التي تمتد إلى أكثر 42 عاماً دليلاً على إصراره ومثابرته على تحقيق ما يقتنع به، وقد حقق للمملكة الريادة في هذا المجال على مستوى الشرق الأوسط بتأسيس أول فرع للجمعية الأمريكية للهندسة القيمية، كما استطاع نشر ثقافة الهندسة القيمية من خلال مكتبه للاستشارات الهندسية، ونجح مع بعض المختصين في هذا المجال في جعل الهندسة القيمية مادة تدرس في جامعة الملك سعود، بل إن إدارة الأشغال العسكرية بوزارة الدفاع التي كان مديرها العام أصبحت مرجعاً مهماً في هذا المجال.
وهذا الحوار مع الدكتور عبد العزيز العطيشان يتناول خلاصة تجربته، ولكنه لن يستطيع الإحاطة بدقائقها، فهي تحتاج إلى سفر تطالعه الأجيال.
كيف بدأت علاقتكم بالهندسة القيمية؟
أول مرة أعرف عن هذا المفهوم كان في عام 1975م، إذ كنت أنا وزميلي الدكتور العقيد فؤاد بن سعود الصالح نحضر الماجستير بجامعة واشنطن، وكنا في مرحلة الشباب، وبرتبة نقيب، وعلمت عن طريق سلاح المهندسين الأمريكي بوجود دورة عن الهندسة القيميةValue Engineering في لوس انجلوس، فقررنا حضور هذه الدورة التي امتدت 5 أيام.
وعندما عدت إلى المملكة بعد نيل الدكتوراه في عام 1979م عملت بإدارة الإنشاء والصيانة بوزارة الدفاع مدة عامين، ثم ما بعد ذلك جرى دمج بعض الإدارات تحت إدارة الأشغال العسكرية، وأصبحت مساعداً للمدير العام في هذه الإدارة، وفي ذلك الوقت كانت لنا علاقة مع سلاح المهندسين الأمريكي.
وكان يعمل مع سلاح المهندسين الأمريكي، مهندس أمريكي من أصل إيطالي اسمه أل دولاسولا وهو أخصائي هندسة قيمية، فقال لي ذات مرة: ما رأيك في تطبيق الهندسة القيمية بالمملكة التي يطبقها سلاح المهندسين الأمريكي؟.
لم نعرف الهندسة القيمية في المملكة إلا في عام 1981م؛ حيث أقامت الأشغال العسكرية أول ندوة متخصصة حوله بنادي ضباط القوات المسلحة بالرياض، دعونا إليها جهات حكومية أخرى.
وعندما أصبحت مديراً عاماً للأشغال العسكرية في عام 1983م أنشأنا أول قسم للهندسة القيمية في عام 1985م في الأشغال العسكرية بوزارة الدفاع، والأول على مستوى الشرق الأوسط.
بعد ذلك نشرنا وبعض الزملاء المهندسين هذا المفهوم، ومن هؤلاء: المهندس عبدالعزيز اليوسفي والمهندس حمود السالمي والمهندس علي الخويطر، وحاولنا نشره سواء من خلال الجهات الحكومية، أو الغرف التجارية والقطاع الخاص.
ماهدف الهندسة القيمية؟ ومتى بدأ تطبيقها؟
بدأت الهندسة القيمية في منتصف الحرب العالمية الثانية، وكانت شركة جنرال إليكتريك الأمريكية سباقة في تطبيق هذا المفهوم، وكان السبب هو شح الموارد، والتفكير في بدائل تسهم في تقليل التكلفة، وتطوير المنتج.
في أيام الحرب ارتفعت أسعار المواد كما أصبحت شحيحة، وهذا ما اقتضى البحث عن البدائل، فمثلاً إطارات السيارات(الكفرات) أساسها من المطاط، الذي يؤخذ من أشجار موجودة بوجه خاص في إندونيسيا، وعندما زاد الطلب في وقت الحرب على السيارات والإطارات، كان اختراع المطاط الصناعي، الذي استُخدم مع المطاط الطبيعي، وهذا ما أدى إلى تقليل التكلفة، وزيادة الإنتاج، فالهندسة القيمية يمكن استخدامها في مختلف المستويات، حتى الأسرة يمكنها تطبيق هذا المفهوم، فهي إذا أرادت أن تشتري شيئاً، فعليها التفكير في السعر والجودة والنوعية، والمفاضلة بين عدد من الخيارات.
بدأ تطبيق الهندسة القيمية في الإنشاءات فهي تعطي الحلول الأفضل على مدى عمر المشروع live cycle وربما تكون التكلفة الأولية أعلى، ولكن التوفير يكون على عمر المشروع. على سبيل المثال، يمكنك استخدام طريق معين للوصول إلى مقر العمل، لكن إذا استخدمت تطبيق “جوجل ماب” فقد يدلك على طريق أقصر؛ فهذا تطبيق للهندسة القيمية.
وجدت الدراسات في أمريكا أن تطبيق الهندسة القيمية يوفر10% من التكلفة، علماً بأن التصاميم التي تعمل بأمريكا جيدة، والمهندسون ممتازون، فنحن في المملكة مع الأسف أخذنا من بعض إخواننا العرب الزيادة في الاحتياط Safety Factor، والإسراف في استخدام المواد بحجة الزيادة في الأمان.
ونحن هنا في المملكة في الأشغال العسكرية وفرنا على الدولة 20%، بالتزام منهجين، الأول ما يعرف بالمراجعة الجيدة Good review، أي مراجعه التصاميم، فالدولة تساعد القطاع الخاص، وتكلف المكاتب الاستشارية بوضع التصاميم،فكان علينا التدقيق في مراجعة هذه التصاميم، والمنهج الثاني كان تطبيق الهندسة القيمية. وقد تعلمنا أن أفضل توفير يمكن أن يكون من خلال الهندسة القيمية في مرحلة التفكير، إذ تكون الخيارات في هذه المرحلة واسعة،فعند بناء فندق مثلاً، يستطيع المصمم وضع بدائل كثيرة، ومن ثم تكون المفاضلة، بينما تضيق هذه الخيارات إذ شُرع في البناء، فالهندسة القيمية توفر لا في العمر الافتراضي للمنشأة فقط، وإنما في التكلفة أيضاً.
وفي هذا الصدد، أذكر أننا حاولنا تطبيق الهندسة القيمية في المستشفى العسكري بالرياض، إذ كان يجري التعامل مع الملفات يدوياً، وهذا يتطلب عدداً كبيراً من الموظفين، ووقتاً طويلاً في تجهيز الملفات وإعادتها،فقمنا بإدخال النظام الإلكتروني، والتعامل مع الملفات عبر الكمبيوتر، ومثل هذا التطبيق عمم فيما بعد، وفي كل المجالات.
ومثال بسيط على تطبيق الهندسة القيمية وهو أن الإنسان ضعيف البصر لديه خيار استخدام النظارة الطبية أو إجراء عملية ليزر، أو تركيب عدسات، وقد يضع الطبيب المعالج خيارات أخرى، وبعد ذلك تكون المقارنات والمفاضلة لاختيار الأفضل حسب رغبة الشخص، أو ترجيح الطبيب لأحد الخيارات من وجهة نظر طبية.
للأسف نحن في العالم العربي متأخرون جداً، بينما في الولايات المتحدة هناك في العقود الأمريكية ماده تسمي حافز تطبيق الهندسة القيمية حيث تشارك الحكومة المقاول الوفر.
هناك نظام تحفيز في أي عقد مقاولات عند تطبيق الهندسة القيمية Value EngineeringIncentive Close، فالمقاول عنده خبرة أفضل من المهندس، فهو يمكن أن يعطيك فكرة توفر لك 3% من تكلفة المشروع، وبهذا يكون الجميع استفادوا صاحب الملك والمقاول.
نحن حاولنا أن نطبق هذه الفكرة في أيام صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز – رحمه الله – الذي أرى أنه أبو الهندسة القيمية، فهو كان قائدي المباشر، فعندما شرحته له الهندسة القيمية دعمها بقوة.وقد أنشأنا قسم للهندسة القيمية، واستقدمنا أمريكيين قاموا بتدريب سعوديين تولوا مسؤولية القسم بعد ذلك.
لماذا ترى الأمير سلطان أبا الهندسة القيمية؟
كان اهتمامنا بتطبيق الهندسة القيمية من منطلق فني، ولولا دعم سموه ما كان لها أن تنتشر، ومن القصص التي تستحق أن يروى أن المهندس حمود السالمي كان هو مدير قسم الهندسة القيمية ومراجعه المخططات، وهو من خيرة المهندسين، حدث أن ذهب إلى المنطقة الشرقية لإلقاء محاضرة، أوضح فيها أن دراسة الهندسة القيمية علي كلية الملك فيصل الجوية المقترح تنفيذها في الخرج آنذاك أوجدت وفرًا بحدود ألفين مليون ريال، وكان المليون في ذلك الوقت (1987-1988م) مبلغاً كبيراً، فجاء في الصحف كلام المهندس وتوفير 2000 مليون ريال، فنادانا الأمير سلطان، وسألنا عن هذا المبلغ الذي وفرناه، فقلت لسموه إن هذا التوفير سيحدث لو طبقنا الهندسة القيمية، فقال سموه:” خلاص روح قل للمهندس تبعك يوضح لا يقولوا 2000 مليون ريال في بطن سلطان”.
ومن أوجه دعم الأمير سلطان بن عبدالعزيز أن كتب إلى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد – رحمه الله- عن رغبتنا في إقرار حافز تطبيق الهندسة القيمية للمقاولين، فحولنا الملك إلى شعبة الخبراء، التي كانت برئاسة واحد من أفضل الناس هو الدكتور مطلب النفيسة المستشار في الديوان حالياً، وقد كان مؤيداً للفكرة، ودعمنا، إلا أن مهندساً بوزارة المالية وقف لنا بالمرصاد؛ لأن الوزارة قالت له: لا توافق؛ لأن مشكلتنا هي خوفنا، وخلطنا بين الحابل والنابل، فالوزارة تخشى أن يكون الحافز مدخلاً للفساد،وقد يكون لها حق، لأنه يمكن أن يكون هناك توفير بالتحايل كالتلاعب في المواد بدلاً من تطبيق الهندسة القيمية، ولكن الفيصل تطبيق النظام، والاعتماد على المختصين، فمثلاً بدأ تطبيق الهندسة القيمية في المملكة بالأشغال العسكرية، مما يجعلها مرجعاً مهماً في هذا المجال.
وحاولت مع المهندس، وهو ظل مصراً على الرفض، ويقول: كيف أنتم توفرون إذا الدولة عندها ميزانية، واعتمدت للمشروع 100 مليون، من وين بتجيب التوفير؟
فأوضحت له أن التوفير يحدث إذا طبقنا الهندسة القيمية،فيمكن أن آخذ 90 مليون من الميزانية، وأكون قد وفرت10 ملايين، فرفض، وظللت أحاول إقرار هذا الحافز حتى تقاعدت مبكراً في عام 1992م، وأنا برتبة عميد.
هل وقف جهدك عند هذا الحد في محاولة تطبيق الهندسة القيمية؟
استمرت محاولاتي لتطبيق مفهوم الهندسة القيمية بعد تقاعدي، إذ فتحت مكتباً هندسياً،واستحدثنا قسماً للهندسة القيمية، وتعاقدنا مع الهيئة الملكية للجبيل وينبع، وأسسنا لها قسم الهندسة القيمية، وقد وفرت مئات الملايين من الريالات، والمهندس حمود السالمي الذي كان مدير قسم الهندسة القيمية بالأشغال العسكرية انتقل إلى وزارة الشؤون البلدية والقروية،وعمل على تأسيس قسم للهندسة القيمية، وتعاقدنا مع الوزارة،ودعمنا القسم بالمهندسين، وكان للمهندس عبد العزيز اليوسفي الفضل -بعد الله سبحانه وتعالى-في تطبيق الهندسة القيمية بشركة أرامكو،وهذا المفهوم إذا توسعت الدولة في تطبيقها لوفرنا لاقتصادنا الوطني آلاف الملايين إذا أُحسن التطبيق.
وقد زرت شخصياً وزير المالية إبراهيم العساف، وكان هذا بعدما تركت وزارة الدفاع، وقلت له: نريد أن نطبق الهندسة القيمية، وأن يُشترط على أي مشروع يعتمد تطبيقه الهندسة القيمية،وقد تحمس معاليه للفكرة.
وكان للإخوة المهندسين حمود السالمي وعبد العزيز اليوسفي وعلى الخويطر دور كبير في نشر تطبيق الهندسة القيمية، وكان للمهندس عبد العزيز اليوسفي وحمود السالمي الجهد الأكبر في إقناع وزارة المالية، وخصوصاً بعد هبوط أسعار النفط، فجرى تطبيق الهندسة القيمية على أي مشروع ميزانيته أعلى من 20مليون ريال، وكذلك على المشروعات المتكررة، التي تزيد ميزانيتها على 5 ملايين، وهذا منطقي لأن التطبيق يكلف كثيراً، ويحتاج إلى مهندس معتمد للهندسة القيمية Certified value engineering specialist، وهذا غال، إلى جانب عدد من المهندسين في التخصصات المختلفة، ويديرهم الأول، ويكون التفكير في خفض التكلفة من دون المساس بالمواصفات.
حسب حديثكم عرفت المملكة الهندسة القيمية مبكراً، فلماذا هذا التأخر في التطبيق؟
بدأنا في الواقع في عام 1985م،وتأسست في المملكة أول جمعية هندسة قيمية بالشرق الأوسط، بالرغم من أن إنشاء أي جمعيه يحتاج موافقة وزارة الداخلية مع العلم أنه ممنوع في المملكة تأسيس جمعيات،وقد طبقنا قول الله تعالى: (“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (المائدة: 101).فقد استقطبت في عضوية الجمعية عدداً من الإخوة الضباط، وسجلناها في الولايات المتحدة الأمريكية، وكنا نمثل كل الخليج، وأردنا دعم الأمير سلطان، وذهبت إليه وشرحت له الفكرة، وطلبت منه أن يأذن لنا ليكون الأمير فيصل بن سلطان رئيساً فخرياً للجمعية، وبما عرف عن سموه من لطف أرسل إليّ الأمير فيصل ليقول لي إن الوالد يقول لك إن تعاقد مكتب العطيشان إلى جانب مكتب أمريكي اسمهHLWلتصميم مؤسسة الأمير سلطان الخيرية يجعل الأمر حساساً، وقد يمكن الربط بين الأمرين، ولكن كان علم سموه بمعلومة تأسيس الجمعية وتسجيلها في أمريكا مباركة منه، وكان هذا مهماً لنا.
لكن مستوى تطبيق الهندسة القيمية في المملكة، هل يعدّ مرضياً لكم؟
في ظني أن الدولة لم تصل بعد إلى المستوى الذي يناسب ريادة المملكة في هذا المجال، لكن القطاع الخاص قطع شوطاً بعيداً، لأنه حريص على كل ريال يصرفه، وهو مهتم بالعائد المالي، بينما القطاع الحكومي لا يعطي الأهمية نفسها للمال والوقت.
أذكر أنني عندما كنت مديراً عاماً للأشغال، كنت جاداً (وحاراً) كما يقولون، وأرفض أي تأخير في تنفيذ العمل، فكان لي مساعد يهون الأمر،ويقول لي:” لما يخلص اليوم يخلص بكرة”،فكان ردي له دائماً أن إتقان العمل مبدأ إسلامي يجب أن نحافظ عليه.
والمشكلة الأخرى أن القطاع الحكومي يخلط بين الفساد والرشاوى من جهة، والشيء الصالح من جهة أخرى، فكل إنسان في العالم العربي متهم حتى تثبت براءته، بينما في الغرب كل متهم برىء حتى تثبت إدانته.
يبدو أنك من أنصار الخصخصة؟
كثيرون تناولوا رؤية 2030، وفي رأيي أن الخصخصة عملية مهمة جداً، وكان المفترض أن نكون قد انتهينا من زمن من تخصيص المطارات، والخطوط العربية السعودية، وغيرها، لأن القطاع الخاص يهتم بالجودة أكثر من القطاع العام، وأدركت هذا عندما كنت أدرس في المرحلة الجامعية الولايات المتحدة الأمريكية، وزار الرئيس الأمريكي نيكسون الاتحاد السوفييتي، وسبقه الصحافي الأمريكي الشهير والتر كرونكايت Walter Cronkiteالذي كان يعمل في شبكة CBS، فوجد مزارع ضخمة لكنها خاوية على عروشها، فسأل عن السبب، فقيل له: إن هذا الحرث تنقصه معدة طلبناها من ثلاثة أشهر ولم تصل، بينما كانت هناك مزارع صغيرة أعطيت للمزارعين، مع قروض، كان إنتاجها أكثر بكثير من تلك المملوكة للدولة.
والتفسير أن موظف الدولة يضمن راتبه عمل أم لم يعمل، في حين أن القطاع الخاص يجتهد أكثر للحصول على عائد أفضل.
وتنسحب الخصخصة حتى على المستشفيات، فلا تكون هناك مستشفيات حكومية إلا تلك المخصصة لمحدودي الدخل، والمستشفيات العسكرية.
وسبق أن كتبت أن الدولة إذا باعت مستشفياتها واستثمرتها، لكان عائدها مع الميزانية المخصصة لوزارة الصحة أكثر من ذلك المبلغ الذي ستصرفه على علاج محدودي الدخل، ويتحول دورها بذلك إلى التنظيم والمراقبة فحسب.
وأنا أرى أمامي أدوية كثيرة تصرف في المستشفيات الحكومية من غير أن يستخدمها المرضى، بينما في القطاع الخاص التأمين يراقب، ولا يصرف الدواء إلا بعد تمحيص.
وهذا القصور ليس عندنا فحسب، بل في أمريكا يقال إن الدولة أسوأ إداري.
وأنا أرى الخصخصة من رؤى 2030، وسيكون لها تأثير إيجابي جداً، وسيلمس المواطن السعودي أن الخدمات الطبية التي سيجدها ستكون أفضل من الماضي. وهذا بالفعل تطبيق للهندسة القيمية.
هل ترى أن رواد الأعمال يحتاجون إلى تطبيق الهندسة القيمية؟
ريادة الأعمال فكرة ممتازة جداً للشباب العربي، فمن يقفون وراء الأعمال الكبيرة في العالم مثل الفيسبوك وجوجل ووسائل التواصل الاجتماعي شباب صغار، لكنهم بالجهد والمثابرة والتعب والعرق حققوا أحلامهم، وحولوها إلى واقع،وهؤلاء يسمونهم في أمريكا الملائكة المستثمرين Angel Investors، والآن هم أغنى أغنياء العالم، والشيء نفسه ينطبق على صاحب شركة مايكروسوفت بيل جيتس Bill Gates، الذي بدأ شركته بـمبلغ 5 آلاف دولار،والآن أكبر شركة في العالم.
وأنا أرى أن تستمر مجلة “رواد الأعمال” في نشر قصص النجاح، وفي المملكة هناك كثير من هذه القصص التي تستحق أن تروى.
أود هنا أن أنبه إلى مشكلة واضحة في مدننا العربية، وهي ظاهرة التقليد، فما أن يُفتح محل ما ويحقق النجاح في نشاط ما، تجد المحلات المماثلة قد حلقت به، وهذا ما يؤدي إلى إخفاق الجميع، فالتقليد قاتل، ولا بد أن من يريد النجاح عليه أن يتميز، ويبعد عن التقليد، وفي تراثنا العربي قصة الغراب الذي حاول تقليد مشية الحمامة، فلم يستطع أن يقلدها، ونسي في الوقت نفسه مشيته.
والتقليد قد يكون محطة ولكن لا يصبح الهدف، فاليابان أول ما بدأت كان تقلد، مع محاولة التجويد، حتى أصبحت تصنع سيارةBMW، وقد وجد عند اختبار الجودة أن السيارة المصنعة في اليابان أكثر جودة من تلك المصنعة في بلدها “ألمانيا”.
وأذكر أنه في عام 1992م جاء وفد من اليابان، وكان يرأس الوفد رئيس الغرف التجارية الياباني، وكان وزير التجارة الياباني عضواً في الوفد، وهذا ما لا يمكن أن يكون في عالمنا العربي.
قرأت لك موضوعاً تدعو فيه إلى تطبيق الهندسة القيمية خصوصاً في التشغيل والصيانة، لماذا هذا التخصيص؟
قلت ذلك لأنني أتكلم على مستوى المملكة، فهي قد أكملت معظم المشروعات، وأكثر الإنفاق يكون على التشغيل والصيانة، فلهذا يجب أولاً أن نطبق الهندسة القيمية على التشغيل والصيانة، على أساس تقليل التكلفة، وتحسين الأداء، ومع الأسف لم تطبق حتى الآن.
في ترتيب الميزانيات يأتي بند التشغيل والصيانة بعد الرواتب.
ألم تحاولوا تأسيس مركز تدريبي أو تعليمي يختص بالهندسة القيمية؟
الحمد لله في كلية الهندسة بجامعة الملك سعود هناك مادة تختص بالهندسة القيمية.
ألا ترى أن هذا المفهوم فكري أكثر منه هندسي؟
بالتأكيد هو فكر في المقام الأول. لكن مشكلتنا أننا لا نطور، بينما في الغرب يطورون،ويتعلمون، ويستفيدون أكثر.
يوجد قسم للهندسة القيمية في مكتب عبد العزيز العطيشان للاستشارات الهندسية، ماذا قدم؟
بالفعل لدينا قسم للهندسة القيمية، وحقيقة نفعنا من ناحيتين:الأولي ناحية مالية،والثانية اكتساب سمعة طيبة، فمن الفخر أن يقوم مكتبنا بدراسة الهندسة القيمية لمشروعات مكاتب استشارية كبيرة في المملكة لها حضورها منذ زمن طويل في السوق.
لكن مما يؤسف له أن الدراسات التي أجريناها كلها كانت للقطاع الخاص، ولم يقم مكتبنا منذ تأسيسه في عام 1992مبدراسة هندسة قيمية للقطاع العام، ما عدا قيامنا بإنشاء قسم للهندسة القيمية في الهيئة الملكية للجبيل وينبع،ودعمنا قسم الهندسة القيمية بوزارة الشؤون البلدية والقروية بمهندسين،ولم نوقع عقداً واحداً مع أي جهة حكومية لتطبيق الهندسة القيمية، فكل مشروعاتنا مع القطاع الخاص، أو مع مكاتب استشارية لمشروعات خاصة.
ولعلي هنا أقترح على ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز وهو يتبنى رؤية 2030 أن يجعل تطبيق الهندسة القيمية قانوناً تلتزمه كل مؤسسات القطاع العام،وقد أقر مجلس الوزراء تطبيق الهندسة القيمية، على أن تقوم إدارة الأشغال العسكرية بوزارة الدفاع بوضع ضوابط، وهذه فرصة للأمير محمد بن سلمان أن يؤكد لوزارة المالية بعدم إقرار أي مشروع لا يطبق الهندسة القيمية، حسب الضوابط التي وضعتها الأشغال العسكرية.
إذا جرى تطبيق الهندسة القيمية في كل المشروعات كما تطالبون، هل هناك مهندسون في هذا المجال بالعدد الكافي؟
نعم هناك مهندسون خبراء، وآلاف المهندسين من حملة الشهادات التي تسمح لهم بوضع دراسات الهندسة القيمية.
وطبعاً كان حمود السالمي وعبدالعزيز اليوسفي، وهما من إدارة الأشغال العسكرية، أول من درسوا الهندسة القيمية، وتخصصا فيها، ثم لحق بهما المهندس علي الخويطر، ومجموعة أخرى بعد ذلك.
وإذا تطلب الأمر يمكن الاستعانة بخبراء من الخارج، وهنا أشير إلى أن إنشاء فرع الهندسة القيمية في المملكة أفاد في مسألة إجراء الامتحانات، إذ كنا نسافر خصيصاً إلى أمريكا للامتحان.
لماذا لا تتبنى تأسيس مركز تدريب للهندسة القيمية؟
يقوم مكتبنا حالياً بتأسيس مركز تدريبي هندسي لكل مجالات الهندسة، وسيكون اهتمامه بالتدريب العملي، لأن التدريب هو الذي ينقص المهندسين، خصوصاً الشباب منهم.
رحبتم بدمج وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي، ما مسوغكم؟
عندما كنت في المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية كانت وزارة المعارف هي المسؤولة عن كل شيء، وكانت مسؤولة حتى عن الجامعات والتعليم العالي، وكان مستوى التعليم جيداً وقوياً، وعندما فصلنا وزارة المعارف عن التعليم العالي لم يعدّ هناك ارتباط بينهما، فضعف التعليم العام والتعليم الجامعي،أما الآن بعد دمج الوزارتين يمكن تحديد مواطن الضعف بشكل أفضل، لكن المطلوب عدم المركزية.
ووجهة نظري أن الجامعات تكون مستقلة بذاتها، ويكون لها مجلس عام، وكل جامعة تكون لها مشروعاتها التي تدعمها وزارة المالية مباشرة، وعند تطبيق استقلالية الجامعات سيقل العبء على الوزارة، وتقريباً الآن الجامعات شبه مستقلة، وليتنا كنا أسرعنا في هذه الخطوة منذ زمن بعيد.
ما رأيك في الجامعات الأهلية؟
أنا من أوائل من شجعوا قيام الجامعات الأهلية، مع أن هناك من يظن أن هذه الجامعات تسعى إلى الربح، وهذا صحيح، ومن حقها أن تحقق الربح، ولكن مستواها العلمي هو الذي يحدد مصيرها؛ لأنها ستكون محكومة بالاعتماد، وهو الذي يحدد مدى قدرتها على الاستمرار والمنافسة وكسب ثقة المجتمع، أو الخروج من دائرة المنافسة، ثم الفشل.
وهذا دور وزارة التعليم التي عليها مراقبة الجامعات الحكومية والأهلية، وعمل تقييم دوري لها، وبناءً عليه يكون الاعتماد أو عدمه حسب الأداء.
كان عندك مطالبة بدمج مؤسسة النقد مع مؤسسة التأمينات الاجتماعية؟
طالبت بهذا الدمج عندما كنت عضواً في مجلس الشورى؛ لأنني أرى أن عملهما واحد، وخصوصاً مع تقنين التنقل بين القطاعين العام والخاص، وتبدو مؤسسة التأمينات الاجتماعية أقوى، لأن الفكرة التي قامت عليها كانت تجارية، وتوجد فيها مسائلة ومراقبة أفضل، والدمج سيكون مفيداً جداً لهما.
أرى أن فكرك يتبلور حول الخصخصة الذي تتحمس لها بوضوح؟
نعم الخصخصة يجب أن تكون توجه الدولة، التي عليها أن تقوم بمهام الخارجية، والدفاع، والأمن، والاقتصاد، وتكون المجالات الأخرى مفتوحة للقطاع الخاص، وتكون الدولة رقيبة من بعيد، فمثلاً الطرق يمكن أن تكون من مسؤولية القطاع الخاص، الذي عليه ضمان جودة التنفيذ، ثم يعطي حق فرض رسوم على استخدامها، مع وجود بدائل للدولة.
وعلى سبيل المثال، تقوم الآن تركيا بإنشاء أكبر مطار في العالم يستوعب 150 مليون مسافر سنوياً، وهو يقع على بعد 35 كيلو متر من مطار أتاتورك الدولي، واسمه جراند إسطنبول، ويقوم به القطاع الخاص، والمجموعة التي رست عليها المناقصة ستدفع للحكومة 26.142 مليار يورو بما في ذلك ضريبة القيمة المضافة لعقد إيجار مدته 25 عاماً.
أنت من أنصار المرأة، وقد طالبت بفتح نوادٍ رياضية لها، أليس كذلك؟
نعم صحيح، فالمرأة نصف المجتمع، وهي أمك وأختك وابنتك وزوجتك، وهي عضو فعال بالمجتمع، وللأسف حتى في التوظيف ظللنا نحصرها في التعليم مدة طويلة، ثم أصبحت هناك طبيبات وصيدليات، بينما كانت المرأة في زمن أجدادنا تبيع وتتاجر، وكانت تعمل جنباً إلى جنب مع الرجال في المزارع، فالتشدد أمر طارئ علينا، ومجتمعنا له عاداته وتقاليده الراسخة التي ينبغي أن نحافظ عليها، لكن من دون تشدد وتضييق على الناس، وأنا مع وجود هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على أن يكون دورها في حدود ما أمر الله سبحانه وتعالى.
والمرأة في الخليج تعاني كثيراً بسبب بعض العادات، وقد بينت الدراسات أن نصف الخليجيات مصابات بالسكري، لأنهن لا يمارسن أي نشاط، وأنا عندما أرى النساء يمارسن المشي وهن في عباءات ثقيلة سوداء تمتص الشمس أشفق عليهن. فلماذا لا تتاح لهن أندية نسائية يمارسن فيها الرياضة من دون مضايقة من أحد. وسؤالي: ماذا لو مارسن الرياضة في أندية رياضية خاصة بهن؟ وماذا لو مارست الطالبات الرياضة في مدارسهن؟
تبدو في بعض كتاباتك مفتخراً بقبيلتك، وفي الوقت نفسه تبدو معادياً للتمييز والعنصرية، كيف؟
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفتخر بقبيلته، ولكن هذا لا يعني أن ترى نفسك أفضل من الآخرين، فأنا يحق لي أن أفتخر بقبيلتي “بني تميم”، وأقول إنها من أكبر القبائل، ولكن لا يجب أن أقول إنها أفضل من القبائل الأخرى.
وعندما كنت بمجلس الشورى تبنيت قانون الوحدة الوطنية بموجب المادة 23 من نظام مجلس الشورى، وينص القانون المقترح على تجريم الكراهية وإدانة الطائفية والنعرات القبلية، كما أن مفهوم تفاوت النسب يجب القضاء عليه، لأن الرضا أساس الزواج، وهناك من جَاؤوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: زوج أُخْتَنَا فُلانًا،فقال لهم الرسول ثلاث مرات: ” أَين أَنْتم عن بِلال؟ حتى زوجوه، فالزواج لمن نرضى دينه وخلقه، دون أن يكون للقبيلة يد في ذلك. والاعتداد بالقبيلة يجب أن يكون في حدود معرفة النسب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلجأ في هذا الأمر إلى أبي بكر الصديق الذي كان نسابة.
عندما تطلق آراء جدلية.. ألا تخشى من ردود الأفعال؟
لا أخشى في الحق لومة لائم، وأحب طرح ما أومن به، وما يراه ضمير، وإيماني بأنه لن يصيبني إلا ما كتبه الله لي.
ما نصيحتك للمهندسين الشباب؟
نصيحتي للمهندس الخريج ألا يعتقد أن شهادته تعني أنه أصبح مهندساً،وإنما عليه أن ينظر إليها على أنها قد وضعته في بداية الطريق، فالشهادة هي الإشارة الخضراء للدخول إلى حقل الهندسة،وعليه أن يسعى إلى التخصص الدقيق، فلا يصبح كشكولاً مدعياً معرفة كل شيء.
ولن يجد المهندس أو أي خريج طريقه إلى النجاح إلا بالتدريب، والمثابرة عليه. ولهذا أنصح أبناءنا الذين يدرسون في الخارج عليهم تلمس سبل التدريب قبل العودة إلى المملكة، وعلى الملحقيات أن تسعى إلى مساعدتهم.
ومن المشكلات أن الخريجين يبحثون عن وظيفة في الدولة، من دون أن يكون لهم أي طموح، وأعتقد أن الأفضل التدرب في القطاع الخاص، حتى لو كان العائد أقل، لأن هذا القطاع يصقل، بينما في القطاع العام يتساوى الجميع.
كان عندكم طرح فيما يتعلق بالشركات العائلية، ليتكم توضحونه؟
شركات عائلية كثيرة تذهب بذهاب مؤسسيها،وقد سرني كثيرا تحول مصرف الراجحي وبنك البلاد إلى شركات مساهمة،وهما نموذجان جيدان على أن المؤسسين يمكن أن يبقوا على رأس الشركة، وفي الوقت نفسه يكون معهم مساهمون يدعمون الشركة، ويضمنون استمراريتها، بل أرى أهمية وجود قانون ينظم تحويل هذه الشركات العائلية إلى شركات مساهمة، لأنها عنصر مهم في اقتصاد البلد، بل ليته – أي القانون- يكون ملزماً، لأن أي هزة لهذه الشركات يتأثر بها كثيرون.
ما الذي تقولونه لمجلة “رواد الأعمال”؟
أرى أن المجلة تقوم بدور كبير، وتشجع الريادة، وتدفع الشباب إلى التميز، وليت الدولة تدعم مثل هذه المجلة الهادفة، التي تخدم هذا القطاع المهم من المجتمع، بل إن الشباب هم أمل المستقبل، ومن نراهن عليهم لحياة أفضل.
وإذا أمعن المرء التفكير يجد أن هذه المجلة جزء من “رؤية المملكة 2030″، ويحقق شيئاً من أهدافها، وأي جزء لا شك يسهم في بلورة هذه الرؤية وتحقيقها على أرض الواقع، وأعتقد أن الأمير محمد بن سلمان يهتم بدعم التوجهات المحققة لأهداف الرؤية، ويمكن أن يكون الدعم لمدة محددة، تحقق خلالها المجلة الانتشار، وتقف على قدميها.