خواطر ريادية
تولّدت لديّ هذه الخاطرة عندما قرأتُ إجابة الدكتور عائض القرني عن هذا السؤال: ما وجه المناسبة في ذكر التين والزيتون وطور سينين والبلد الأمين في الآية: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ (التين: 1-3)؟!. وكانت الإجابة عن هذا السؤال أن كلّ اسم من هذه الأسماء يشير إلى بلد نبيّ من أولي العزم الخمسة؛ فالتين والزيتون بلاد الشام، وهي أرض عيسى، وأُلحق بالقرب منها نوح وإبراهيم، وطور سينين هي أرض موسى، والبلد الأمين هي أرض محمد عليهم جميعاً الصلاة والسلام.
تأمّلت الآية مرةً أخرى، وتذكرتُ مطعماً مميزاً رأيته في كوالالامبور عاصمة ماليزيا، وهو منتشر بنظام الامتياز التجاري Franchise، وكان اسم المطعم (التين والزيتون Fig & Olive)، واللافت أنه خرج من سنغافورة، وليس من بلد عربي. أغلب مكوّنات قائمة الطعام من التين والزيتون، حتى الخبز يحتوي على نسبة من التين المجفف المطحون. وعندما قابلت مؤسّس هذا المشروع تملّكتني الدهشة عندما قرأتُ اسمه في بطاقة الأعمال التي ناولني إياها. هل تعلمون ما اسم هذا المهندس السنغافوري خرّيج الهندسة الإلكترونية؟! اسمه ذو القرنين حافظ؛ فقد اختار أبواه له أيضاً اسماً من القرآن الكريم.
على الرغم من مقولة ابن خلدون: «إن قوة اللغة في أمةٍ ما تعني استمرارية هذه الأمة بأخذ دورها بين بقية الأمم؛ لأن غلبة اللغة بغلبة أهلها، ومنزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم»، إلا أننا نجد اليوم بعض الشباب العربي يختار أسماء أجنبية لمشروعاتهم الصغيرة؛ أملاً في جذب الزبائن إلى الشراء من محلاتهم، مع أن الأسماء الأجنبية لتلك المشروعات، وإن كانت تبدو براقةً ولافتةً، إلا أنها تعكس في الأغلب دلالات بعيدة من ثقافتنا، وهويتنا، والقيم الخاصة لعامة الناس في بلداننا العربية. وإذا تأمّلنا الأمم الآن في سلّم الحضارات سنجد من وصلت إلى قمته، وأخرى أسفل السلم؛ فالتي في الأسفل تسعى إلى الحصول على منتجات الأمم التي في الأعلى وخدماتها، وربما من دون دراسة احتياجاتها المناسبة لهويتها. لذا يعتمد بعض روّاد الأعمال من الشباب على استثمار هذه الظاهرة بوضع أسماء لمشروعاتهم بلغة الحضارة المتفوّقة؛ لتسويق أنفسهم تحت مظلة تلك الحضارة لأجنبية المتقدمة؛ فهل تعتقدون أن المشروع إذا كان اسمه مُستوحًى من تراثنا العربي والإسلامي فإن ذلك يزيد من فرص نجاحه؟!. هل مثال (التين والزيتون) كافٍ للإجابة بالإيجاب عن هذا السؤال؟!.
أتذكّر مثالاً آخر، وهو لأحد روّاد الأعمال المبدعين، الذي طالما ناديته بابني البِكر؛ إذ كان المبدع فواز عبدالمجيد اليحيى أول شاب تخرّج في الدورة الأولى لبرامج غرفة الشرقية لتأهيل المستثمر الصغير عام 2006م، وافتتح مشروعه الناجح (زُخرُف). وتجدر الإشارة هنا إلى استمرار تقديم الغرفة هذه البرامج بنجاح من خلال مركزها لتنمية المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وبدعم مشكور من دائرة المسؤولية الاجتماعية في البنك الأهلي التجاري؛ إذ أسعد هذا الشهر بتدريب روّاد الأعمال الواعدين في مدينة الجبيل الصناعية بالدورة السابعة والعشرين من تلك البرامج التي صمّمتها منذ زمن لبدء مشروعات صغيرة ناجحة وإدارتها ونمائها.
انطلق الشاب فواز اليحيى في مشروعه المبتكر (زخرف)، ولاحظوا أن اسم المشروع هو نفسه اسم سورة في القرآن الكريم. تميّز مشروع (زخرف) بتصنيع الأثاث الشرقي على الطراز الإسلامي والأندلسي، مستخدماً أفضل الخامات التي يجلبها من مناطق بعيدة، أهمها مدينة دمياط المصرية حيث خامات الأرابيسك والصدف. وتنتشر فروع (زخرف) الآن في دول الخليج العربي ضمن مانحي الامتياز التجاري.
مثال ثالث للإعلامي الشاب أحمد الشقيري، الذي اختار اسم (أندلسية) لمقهى ثقافي علمي أدبي، ربما ليُذكّرنا بمجد المسلمين المفقود في الأندلس. مثال رابع للصديق هيثم أبو عائشة، الذي تنتشر شركته (صحارى نت) بنجاح في ربوع المملكة العربية السعودية. أمثلة أخرى قام بها الشباب المصري الواعد، الذين افتتحوا مؤخراً مساحات عمل مشتركة Co-Working Spaces بأسماء عربية؛ مثل: قفير (بيت النحل)، و(المقرّ) بالقاهرة، و(حلم) بالمنصورة، و(معمل) بالإسكندرية؛ تلبيةً لاحتياجات روّاد الأعمال وأصحاب الأفكار، ومنح الفرصة لتعاونهم معاً من خلال توفير مقرّ عمل مؤقت بأسعار مقبولة، مستفيدين من وجود أشخاص يمتلكون الخبرات والمعرفة لتحويل الأفكار إلى مشروعات ملموسة.
يقول الأديب مصطفى صادق الرافعي في كتاب (وحي القلم): «ما ذلّت لغة شعب إلا ذلّ، ولا انحطّت إلا كان أمرها في ذهاب وإدبار، ومن هنا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضاً على الأمة التي يستعمرها، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها». ولطالما أشدّد في محاضراتي للشباب على أن يتملّكهم الطموح في أن يمتلكوا أفكار مشروعات مميزة، ويصبغونها بهوية مميزة، ويُثابرون من أجل نجاحها؛ ليصيروا من مانحي الامتياز التجاري Franchisors، وليس من الممنوحين Franchisees. وأترك لخيال القارئ العنان حينما يقرّر الشباب المصري، أو مطعم (التين والزيتون)، أو مشروعا: (زخرف)، و(أندلسية)، تدشين فروع جديدة بنظام الامتياز التجاري، ناشرين هويتهم وقيمهم العربية والإسلامية في أرجاء المعمورة شتى.