جودة الحياة مفهوم مهم لبناء بيئات مهنية منتجة وفعالة؛ من خلال توفير المهارات اللازمة في أفرادها؛ إذ يرفع الرضا الداخلي والخارجي من درجة النجاح في عالمهم، سواء الشخصي أو المهني؛ ما ينعكس على المنظمة ومخرجاتها.
وبما أنني أقدم حاليًا ورش عمل ودورات تدريبية حول البيئة المهنية والانسجام فيها، رأيت أن أسلط الضوء على أهم المهارات المطلوبة لجودة الحياة، وكيفية تحقيقها في بيئة العمل، لاسيَّما وأنني- أثناء تدريبي على منهج التطبيق العملي لإدارة التغيير بمدرسة الأعمال “انسياد” بفرنسا- كتبت تقارير وتأملات حول بيئات العمل التي زرتها؛ وهي قناة الإخبارية، ومدرسة انسياد للأعمال، والجامعة السعودية الإلكترونية، ودونت ما لاحظته في الديناميكيات النفسية باستخدام نفسي كأداة للتغيير.
كنت خلال العامين الأخيرين قد زرت عدة أماكن حكومية، وشبه حكومية، وخاصة، كما أعددت جلسات تدريب لأفراد مختلفين من بيئات مهنية متعددة؛ فلاحظت أن معدلات الرضا والسعادة المهنية تضاءلت عند البعض، وتلاشت عند آخرين كٌثر فقدوا معها الشغف للعمل، لكنهم ناضلوا من أجل استمرار رحلة الانسجام والتعايش مع بيئة العمل.
بحثت عن مدى الارتباط بين مهارات جودة الحياة، وبين سعادة الأفراد في بيئات العمل المختلفة، فسألت بعض المتدربين في دورة- قدمتها مؤخرًا عبر الإنترنت- عن ماهية جودة الحياة بالنسبة لهم، فأجابوا بأن مفاهيم جودة الحياة لديهم تدور حول تحقيق الأهداف، وإتقان العمل، والعيش بنحو أفضل، والشعور بالرضا في حياتهم.
تدل هذه الإجابة على أن هذا المفهوم مرتبط لديهم بشكل واعٍ أو لا واعٍ بالأماكن التي يقضون أوقاتهم فيها، ومنجزاتهم من خلالها. وعند العودة لكونهم من مواردنا البشرية في التعليم فإنهم يقضون وقتًا كافيًا في بيئة العمل؛ ما يجعلهم ينقلون ثقافتها معهم أينما ذهبوا، فتجد أن البعض يستطيع التكهن بماهية عمل المعلم من مصطلحاته وطريقة تعبيره عن آرائه واهتماماته، وبالمثل يتكرر ذلك في المهن الأخرى.
كان مفهوم جودة الحياة من مجالات البحوث الأسرع نموًا واهتمامًا في مجال الطب النفسي خلال القرن الحادي والعشرين؛ إذ نال اهتمام العديد من الدول، ثم انتقل هذا الاهتمام إلى المنظمات التي تنتمي إليها، فانتشرت وظائف أخصائي السعادة والارتباط الوظيفي في جهات متعددة لدعم هذا التوجه.
وقد أصبح اهتمام المملكة العربية السعودية احترافيًا؛ بإطلاقها برنامج جودة الحياة ضمن مبادرات رؤية ٢٠٣٠ التي تحمل كثيرًا من المهام والأهداف لتطوير جودة الحياة بالمجتمع السعودي؛ بالسعي للوصول إلى مؤشرات متقدمة؛ وهو ما تتطلبه المجتمعات الناهضة التي تسعى إلى التغيير والتطوير باستمرار، وإعادة هندسة وتخطيط الحياة، بقياس وتوثيق استدامة الرفاهية، والعيش الآمن الرغيد البعيد عن التعقيدات والمؤثرات.
ومن المبشر لهذا البرنامج دخول مدينة الرياض قائمة أفضل مدن العالم في جودة الحياة؛ لتكون الثالث عربيًا وبالمرتبة ٢٦ عالميًا، وفق تقرير بنك دويتشة الألماني ٢٠١٩، الذي تناول جودة الحياة في أهم مدن العالم، من حيث صلتها بالأسواق المالية العالمية.
وتعرف منظمة الصحة العالمية WHO، مفهوم جودة الحياة بأنه: “إدراك وتصور الأفراد لأوضاعهم ومواقعهم، في سياق نظم الثقافة والقيم التي يعيشون فيها، وعلاقة ذلك بأهدافهم وتوقعاتهم ومعاييرهم واعتباراتهم”، وهو تعريف يتضمن مفهومًا واسع النطاق يتأثر بالصحة الجسدية والحالة النفسية والمعتقدات الشخصية والعلاقات الاجتماعية للفرد؛ وبمعنى آخر أكثر بساطة: “قدرة الإنسان على التعايش مع نفسه ومجتمعه بشكل سليم، يمنحه القدرة على أداء دوره كاملًا تجاه نفسه وأسرته ومجتمعه”.
ولابد من معرفة الفارق بين مفهوم جودة الحياة ومصطلح مستوى المعيشة؛ فالأخيرة تستند بالدرجة الأولى على مستوى الدخل؛ أي مجرد تقييم للثروة المادية والوضع الوظيفي للشخص في المجتمع، بينما تُعد جودة الحياة مقياسًا لمدى رفاهية الأفراد والمجتمعات والشعوب.
ولا تقتصر نوعية جودة الحياة على الثروة والتوظيف والفرص الوظيفية فقط، بل تتعدى ذلك لبيئة مبنية على الصحة البدنية، والعقلية، والتعليم، والترفيه، واستثمار وقت الفراغ، والانتماء الاجتماعي القوي، متضمنةً الصحة الجسدية والنفسية والعلاقات الاجتماعية والحالة الروحانية للشخص.
ولنشر الوعي بمفاتيح جودة الحياة كنت أتطرق لهذه المحاور؛ من أجل التمكين الشخصي، وتحقيق التوازن والروحانية والاجتماعية لكل فرد.
ويحتار كثيرون عندما أسأل عن معنى الحياة لديهم؛ إذ لا يجدون إجابة كافية ترضي عمق هذا السؤال؛ لذا نجد أنه بتأملنا لجودة الحياة نجد أنها تعني السعادة والرضا والجوانب الروحية والمشاعر والأمل والحكمة والثقافة؛ وهي تمثل جميعًا دافعًا لاستدامة الحياة البشرية، فتلهم سلوكياتهم، وتؤطر تعايشهم. وقد يكون من مسؤولية الحكومات والهيئات ذلك، لكنها بالمقام الأول جزء من ثقافة الأفراد، ومنجزات مؤسساتهم المدنية والثقافية.