ربما يعرف البعض تلك الظاهرة المسماة Karōshi، والتي يمكن ترجمتها على أنها “الموت بسبب إرهاق”، وربما يعرف البعض الآخر غابة أوكيغاهارا أو الغابة الانتحارية التي ينتحر فيها الناس من كثرة ضغوط العمل، لكن ثقافة اليابانيين في العمل تتعدى هذا الطرح وأعمق.
وقبل أن نتوغل في بسط ملامح هذه الثقافة اليابانية فيما يخص العمل، وجب علينا الإشارة إلى أن هناك ثقافتين كبيرتين شائعتين في العالم الآن فيما يخص مسألة العمل (على الأقل)؛ هما الثقافة الأمريكية والثقافة اليابانية، وعادة ما يظهر إلى اليابان وأحيانًا الصين على أنها النموذج البديل للنموذج الأمريكي؛ وذلك لأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية لا مجال للخوض فيها الآن.
هاتان الثقافتان على عكس بعضها تمامًا، ولا يبدو أن ثمة ملامح اتفاق سوى في ساعات العمل الطويلة، لكن اليابانيين يقدسون العمل الجماعي فيما يميل الأمريكيون إلى العمل الفردي، أو تحفيز الموظفين لأخذ زمام المبادرة من تلقاء أنفسهم، وهذا أضعف الإيمان.
من جانبه، سيحاول «رواد الأعمال» بيان أبرز ملامح ثقافة اليابانيين في العمل وذلك على النحو التالي..
اقرأ أيضًا: ثقافة الشركة و”روشتة” الانسجام مع فريق العمل
ساعات عمل طويلة
لعل أشهر ما يعرفه الناس عن ثقافة اليابانيين في العمل هو الإفراط في العمل، والمكوث في المكاتب لساعات طوال، حتى إن ظاهرة Karōshi (التي صدّرنا بها القول) ليست موجودة سوى في اليابان تقريبًا، كما أنها (أي اليابان) لديها أطول ساعات عمل في العالم.
ووفقًا لمسح أجرته وزارة الصحة والعمل والرفاهية فإن ما يقرب من ربع الشركات اليابانية لديها موظفون بدوام كامل سجلوا أكثر من 80 ساعة من العمل الإضافي في شهر واحد، مع 12% إضافية من الموظفين كسروا 100 ساعة.
اللافت في الأمر أن هؤلاء الموظفين لم يقرروا هذا العمل الإضافي من أجل الحصول على علاوة مادية، أو زيادة في الراتب، إنما هم يعملون لأجل العمل ذاته، كما أن بعض الموظفين الآخرين يقررون عدم أخذ إجازات لكي لا يزعجوا زملاءهم في العمل.
ونظرًا لتفشي الأضرار الصحية الناجمة عن ساعات العمل الطويلة، صدر في عام 2019 قانون العمل الجديد الذي يعمل على وضع حدود لثقافة العمل المفرط في البلاد.
اقرأ أيضًا: العمل عن بعد.. ضرورة ملحة أم ميزة كمالية؟
التواصل بعد العمل
ثقافة اليابانيين في العمل متمحورة حول فكرة واحدة تقريبًا؛ وهي أننا موجودة لكي نعمل، وأن وجودنا يستمد معناه من العمل ذاته، ونجد تجليًا لهذه الثقافة في تلك الظاهرة التي تسمى، في اليابان، Nomikai؛ حيث يجتمع رفاق العمل، موظفون ومدراء، بعد ساعات العمل، وهذا جزء من الآداب الاجتماعية هناك، في حانة أو مكان ما من أجل الشرب، والتحدث مع بعضهم، وتقوية أواصر العلاقات فيما بينهم.
ومن شأن هذه الطريقة _التي هي ليست مفروضة بالمناسبة وإنما يُتوقع من كل موظف أن ينخرط فيها_ أن تعمل على إذابة الخلافات بين الموظفين وبعضهم، كما أنها تسمح للموظفين الآخرين الراغبين في الترقي بعرض آرائهم وتصوراتهم على المدراء، ومن ثم قد تكون مثل هذه الحفلات سببًا في صعود شخص ما درجة على السلم الوظيفي.
اقرأ أيضًا: مواجهة التنمر في العمل.. سبل حماية الذات
نظام الأقدمية
يولي المجتمع الياباني أهمية كبيرة للعلاقة الهرمية بين الكبار والصغار، يُعرف هذا المبدأ باسم نظام nenkou-joretsu، وهو مبدأ يتغلغل في جذر ثقافة اليابانيين في العمل، ونظام يأخذ من الأقدمية معياره الرئيسي.
ويستمد هذا النظام فكرته، من حيث الجوهر، من الكونفوشية؛ التي تؤكد العلاقات الاجتماعية القائمة على وضع كل فرد في المجتمع. ولأن الأمر هكذا فيما يخص ثقافة اليابانيين في العمل فإنه من النادر أن ترى موظفًا يغادر عمله؛ لأنه إن غادر للانضمام إلى شركة أخرى فمن المرجح أن يبدأ من أسفل السلم الوظيفي مرة أخرى براتب أقل.
وعلى الرغم من تغلغل هذا النظام في ثقافة اليابانيين بالعمل، شهدت السنوات الأخيرة انزياحًا صوب النظام القائم على الجدارة وهو النظام المعمول به عالميًا.
اقرأ أيضًا: أخطاء الزملاء في العمل وكيفية التعامل معها
الانسجام الجماعي
اليابانيون مهوسون بفكرة الانسجام الجماعي، والإجماع العام على فكرة أو نظرية بعينها، ولنلاحظ أننا هنا على النقيض تمامًا من الثقافة الأمريكية التي تشدد على التفرد، فعلى سبيل المثال، لن يكون مفاجئًا أن نجد الموظفين اليابانيين يحرصون على الإقامة مع بعضهم؛ من أجل تحقيق أكبر قدر من الانسجام ذاك، كما أن مغادرة العمل مبكرًا قد تعبر _في إطار ثقافة اليابانيين في العمل_ عن أنانية لا يجمل بالمرء، حسب زعمهم، أن يتورط فيها، ناهيك عن أن بعض الموظفين، كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، يأبون أخذ إجازات؛ كي لا يكونوا عبئًا على بقية زملائهم.
وبدلًا من اتخاذ القرارات بناءً على السلطة الفردية، تميل الشركات اليابانية إلى اتباع نهج شامل، وتأكيد إجماع المجموعة من أجل الحفاظ على التعاون السلمي داخل المنظمة.
اقرأ أيضًا: استخدام البريد الإلكتروني في إدارة الموارد البشرية
أماكن عمل شديدة الرسمية
تقتضي ثقافة اليابانيين في العمل أمورًا قد يراها الأمريكي، على سبيل المثال، من الأشياء الخارقة للطبيعة؛ فهم، مثلًا، يعتبرون مخاطبة الزملاء في العمل باسمهم الأول نوعًا من الوقاحة، أو إذا قدم لك أحدهم بطاقة عمله ولم تتناولها بكلتا يديك في انحناءة واضحة فقد يعتبره وقاحة أيضًا.
أما فيما يتعلق بفكرة الملبس فحدث ولا حرج؛ إذ يندر أن تجد الموظفين بألوان زاهية أثناء عملهم، كما يرتدي معظم رجال الأعمال بدلات رمادية أو بحرية أو سوداء، ويرتدون ربطات العنق دائمًا تقريبًا، حتى في فصل الصيف. والأمر ذاته يحدث مع النساء تقريبًا. تلك هي بعض ملامح ثقافة اليابانيين في العمل.
اقرأ أيضًا:
المدير التنفيذي السيئ.. صفاته وسلبياته
راحة الموظفين.. هل تجتمع المتناقضات؟
أقسام كان يجب وجودها في الشركات.. اقتراحات للإبداع