في هذه المساحة من مجلتنا المميزة، كنت قد كتبت مقالًا بعنوان “ريادة الأعمال الحديثة”، أشرت فيه إلى أن معظم رواد الأعمال الحاليين لا يُنشئون شركاتهم لأولادهم وأحفادهم، كما كان يخطط رواد الأعمال القدامى، بل يُنشئونها بغرض بيعها سريعًا، أو الاستحواذ عليها مستقبلًا من كيان أكبر مهتم أو منافس. وفي الوقت نفسه، يريد هذا النوع الأخير من المنافسين التهام منافسه، ليس بالقضاء عليه، بل بضمه إلى كيانه والاستفادة من قدراته وعملائه.
شهد العالم سلسلة استحواذات كبيرة في عالم التقنية، كان أبرزها استحواذ “أوبر” على “كريم” مقابل 3.1 مليار دولار في مارس 2019، واستحواذ “أمازون” على “سوق” مقابل 580 مليون دولار في العام 2017، واستحواذ “مايكروسوفت” على “لينكد إن” مقابل 26.2 مليار دولار في العام 2016، واستحواذ “فيس بوك” على “واتس آب” مقابل 19 مليار دولار في العام 2014، واستحواذ جوجل على “موتورولا” مقابل 12.4 مليار دولار في العام 2012، واستحواذ “فيس بوك” على “إنستجرام” مقابل مليار دولار في العام نفسه.
وقد تابعت تعجب الكثيرين من قرار شركة “جُلوفو Glovo” المتخصصة في توصيل الطلبات بشتى أنواعها- مثل الطعام والدواء وطلبات البقالة- مغادرة السوق المصري، رغم نجاحها الكبير خلال الفترة القصيرة التي عملت فيها بمصر!
وقد فسر أحد الخبراء الاقتصاديين ذلك، عندما ذكر أن جلوفو بدأت من إسبانيا، وانتشرت بسرعة كبيرة، وحققت نتائج مبهرة للمستثمرين الذين سارعوا بضخ الأموال فيها لمزيد من التوسع والانتشار حول العالم؛ حتى وصلت إلى مصر واستحوذت على حصة كبيرة من سوق منافسها الرئيس “اطلب Otlob”؛ وذلك حتى نهاية أبريل 2019.
على الجانب الآخر، كانت هناك شركة ألمانية تأسست في العام 2011 اسمها “Delivery Hero” خططت لأن تكون أكبر منصة عالمية للتوصيل؛ باستحواذها على العلامات التجارية المماثلة لنفس نشاطها؛ إذ تمتلك حاليًا 32 علامة تجارية منتشرة حول العالم. وفي منطقتنا العربية، استحوذت على شركة “كاريدج Carriage” الكويتية في مايو 2017، وفي مصر استحوذت على شركة “اطلب Otlob” النشطة منذ عام 1999.
عندما صارت “جلوفو” تهدد “اطلب” مباشرة بالسوق المصري، تم ضخ 115 مليون يورو فيها؛ من خلال جولة استثمارية في أغسطس 2018، وكان المستثمر الأكبر هي “Delivery Hero” بقيمة 51 مليون يورو؛ لتتحول إلى أكبر مُساهم في “جلوفو” بنسبة 16%، فصار لها في مصر “اطلب” و “كاريدج” الكويتية التي دخلت السوق المصري في مارس 2019، وربما كان ذلك مبررًا مُقنِعًا لخروج “جلوفو” من مصر في نهاية أبريل 2019، خاصة بعد ما حصلت على 169 مليون دولار بجولة تمويل كانت من شروطها، خروجها من مصر لتُفسح المجال لشركتيها العاملتين بالسيطرة على السوق المصري، بينما تتوسع “جلوفو” من خلال هذا الاستثمار في بلدان أخرى تكون المنافسة فيها أقل حدة.
أختم مقالي بسؤالين وأترك إجابتهما للقارئ: هل البقاء ما زال للأصلح، أم البقاء للأقوى والأكثر نفوذًا بماله وتقنياته؟