تأثير المشكلات البيئية على الاقتصاد الأخضر
لا شكَّ في أنَّ تغيُّر المناخ يُعد مُشكلةً عالميةً طويلةَ الأجلِ تنطوي على تفاعُلات مُعقدة بين العوامل البيئيَّة، وبين الظروفِ الاقْتِصَادية والسياسيَّة والاجتماعيَّة والتكنولوجيَّة؛ إذ بدأت تظهر التأثيراتُ المُرتبطة بتغيُّر المناخ بفعل النشاطات البشرية في عدة أشكال؛ أبرزها التغيُّرات في متوسط درجات الحرارة، وما ارتبط بذلك من تغيُّرات في أوقات الفصول، وتزايد كثافة أحداث الطقس المُتطرفة، وهذه التأثيراتُ تحدثُ حاليًا وستتفاقم في المُستقبل؛ ما يُهدد بتعرض ملايين السُكان لا سيِّما في البلدان النامية لنقصٍ في المياه والمواد الغذائيَّة ومخاطرٍ مُتزايدة على الصحة، وغرق أجزاء من سواحلها.
وفي الحقيقة، أصبح تغيُّر المناخ أمرًا لا يُمكن تجاهله؛ لأنَّ تدهور البيئة على الصعيد العالمي لم يجد من يُوقفه، كما أننا نستغل الموارد الطبيعية بشكلٍ يُخَلِّف ضررًا كبيرًا؛ ما جعل هذا التغيُّر أشبه بخطر الحروب على البشرية.
التغيُّر المناخي
وقد عرَّفت الهيئةُ الحكوميَّة الدوليَّة المعنيَّة بتغيُّر المناخ (IPCC) التغيُّر المناخي بأنَّه: “تغيُّر في حالة المناخ، يُمكن معرفته عبر تغييرات في المعدل / أو المُتغيِّرات في خصائصها التي تدوم لعقودٍ أو أكثر، ويُشير إلى أي تغيُّر في المناخ على مر الزمن، سواء كان نتيجة للتغيُّرات الطبيعية أو الناجمة عن النشاط البشري”.
ومن جانبها، تُعرِّف “اتفاقيَّة الأمم المُتَّحِدة الإطارية بشأن تغيُّر المناخ” (UNFCCC) التغيُّر المناخي بأنَّه ” تغيُّر في المناخ يعزى بصورةٍ مُباشرة أو غير مُباشرة إلى النشاط البشري، الذي يفضي إلى تغيُّر في تكوين الغلاف الجوي للأرض”.
الآثار المُتَرَتِّبَة على تغيُّر المناخ
ومما سبق، يتَّضح لنا أنَّ الآثار المُتَرَتِّبَة على تغيُّر المناخ تشمل: ارتفاع درجات الحرارة، وتدني رطوبة التربة، وازدياد التبخُّر والنتح، والتحوُّلات في أنماط سقوط الأمطار من حيث التوزيع الزمني والجغرافي، والتقلُّب السنوي والموسمي الشديد للظواهر الجويَّة، وازدياد موجات الجفاف والفيضانات، وتقلُّص الغطاء الثلجي على المُرتفعات (كالمناطق الجبلية في سورية ولبنان، وبدرجة أقل في العراق)، وارتفاع منسوب سطح البحر وتداخُله في الخزانات الجوفيَّة الساحلية للمياه العذبة، كما يُتَوَقَّع أنْ يُؤَثِّر تغيُّر المناخِ سلبًا على نوعية المياه؛ بتلوث المياه السطحيَّة والجوفية وزيادة نسبة ملوحتها.
ومن المُنْتَظر أنْ يُؤَثِّر تغيُّر المناخ على قطاعات عديدة؛ مثل الزراعة، والصحة، والسلامة العامة والتنوُّع البيولوجي، وتحلية المياه، والسياحة، وإنتاج الطاقة من المصادر المائية، والملاحة النهرية وغيرها.
وما يجب أنْ نُلاحظه في هذا الصدد، أنَّ التوجُّه نحو الصناعة أدَّى إلى الحاجةِ إلى أنواعِ الوقود المُختلفة، كما أدَّى حرق الوقود- سواء كان أحفوريًا أو فحمًا- إلى انبعاث أكاسيد الكربون والنيتروجين في الهواء، والتي هي من أهم أسباب الاحتباس الحراري الذي أدَّى بدوره إلى تغيُّر المناخ؛ حيث أدَّت هذه الغازات إلى رفع درجة حرارة الأرض بمقدار 1.2 درجة مُقارنة بمستويات ما قبل الثورة الصناعية، كما أدَّت إزالة الغابات بشكل واسع – للاستفادة من أخشابها- إلى تناقص عملية البناء الضوئي الذي يُقلل من ثاني أكسيد الكربون ويحوله إلى أكسجين.
ومن الغازات الأخرى التي تلعب دورًا مُهمًا في عملية الاحتباس الحراري؛ غازُ الميثان المُنبعث من مزارع الأرز، وتربية البقر، والنفايات، والمناجم، وأنابيب الغاز.
منافع إضافيَّة
وهناك منافع إضافيَّة للاقْتِصَاد الأخضر بشكل مُسْتَدام بما يُسمى خدمات النظم الإيكولوجية؛ إذ تُبَيِّن البحوثُ التي أُجْرِيت من أجل تقرير برنامج الأمم المُتَّحِدة للبيئة عن الاقْتِصَاد الأخضر كيفية إنجاز تقدُّم كبير نحو هذا الهدف؛ بمُبادرات تدير الطلب على الخدمات المُستفادة من النُظم الإيكولوجية، على أنْ تكملها استثمارات من أجل تعزيز عرض تلك الخدمات، وتوريدها طوال الفترة من الأجلِ المُتوسط إلى الأجلِ الطويل؛ لأنَّ اتِّباع أسلوبٍ أفضل وأكثر عناية بالاستدامة في إدارة الأحراج في العام يُمكن أنْ يُؤَدِّي إلى زيادة في أراضي الأحراج؛ ما يُسهم في زيادة خصوبة التربة، وتوافر المياه، وخدمات تخزين انبعاثات الكربون.
كذلك، فإنَّ تحسين كفاءة استخدام المياه، يُمْكن أنْ يُخَفِّض بقدرٍ كبيرٍ استهلاك المياه، كما أنَّ تحسين إدارة الإمداد بالمياه وسُبل الحصول عليها يُمكن أنْ يُساعد على الحفاظ على المياه الجوفيَّة والمياه السطحيَّة.
مستقبل الاقتصاد الاخضر
فرضت عملية التغيُّر المناخي على العالم تَحَدِّيًا كبيرًا يحتم على الجميع التَحَرُّك لِمُواجهته؛ إذ يسود العالمَ الآن إجماعٌ حول خطورة تغيُّر المناخ وانعكاساته، كما أنَّ مُمَارسة الأعمال بالطريقة المُعْتَادة لم تعُد خيارًا كما كان من قبل؛ وبالتالي على العالم أنْ يُدْرك أنَّه سوف يتغيَّر جذريًا خلال ثلاثين عامًا أو أقل، مع ضرورة التحوُّل إلى الاقْتِصَاد الأخضر لمواجهة التحديات التي سوف يفرضها هذا التغيُّر المناخي.
إنَّ الاقْتِصَادُ الأخضر يعني ” الانتقال إلى اقتصادٍ مُنْخَفض الكربون، يعتمد على استخدام الطاقة الجديدة والمُتَجَدِّدة، في إطار مُمَارسات بيئية مُستدامة”، والتحول إليه سيؤدي إلى تحسين نوعية حياة الأفراد بشكلٍ كبير، ويضمن تكنولوجيات وصناعات جديدة، ستُصْبُح هي صناعات النمو في القرن الحادي والعشرين، وستَتَمَكَّن الدولُ والشركات التي تسير في هذا الاتجاه مُبَكِّرًا من جني الثمار.
خلق الثروات
لقد أصبح التوجُّه نحو الاقْتِصَاد الأخضر أمرًا مُلِحًا؛ لفوائده الجمَّة؛ إذ يُشير تقريرُ الأمم المُتَّحِدة عن البيئة عام 2011، بعنوان «نحو اقتصادٍ أخضر.. مسارات إلى التنميَّة المُسْتَدَامة والقضاء على الفقر»، إلى أنَّ الفوائد الرئيسة من التحوُّل إلى الاقْتِصَاد الأخضر، تَتَمَثَّل في خلق الثروات وفرص العمل المُتنوعة، والقضاء على الفقر، وتحقيق الرخاء الاقْتِصَادي على المدى الطويل، من دون استنفاد للأصول الطبيعية للدولة، وبخاصة في الدول مُنخفضة الدخل.
مفهوم الأمن القومي
ومما يزيد من أهمية التحول نحو الاقْتِصَاد الأخضر مستقبلًا، ارتباطه بمفهوم الأمن القومي للدولة بعد أن كان مرتبطًا بالأمن العسكري؛ لذا كان التركيزُ على بناء قوة قادرة على التعامل مع الأخطار الخارجيَّة باستخدام الأعمال العسكرية، ولكن التفسير الشامل للأمن القومي حاليًا هو قدرةُ الدولة على تأمين استمرار مصادر قوتها في كل المجالات، بما فيها المجال الاقْتِصَادي؛ لمواجهة المخاطر التي تُهَدِّدها، ولتأمين مُتَطَلَّبات الحياة الأساسية لأبنائها في الحاضر والمُستقبل.
ويرتبط هذا التأمين بتلوث البيئة أو الاستخدام الجائر للموارد الذي قد يُؤَدِّي إلى خلل داخلي وانهيار عناصر قوة الدولة؛ لذا أصبح التحدي الذي يواجه العالم يتعلَّق بالتوفيق بين النمو الاقْتِصَادي والسكاني من ناحية، وبين الحفاظ على العناصر الأساسيَّة للحياة من خلال الحفاظ على البيئة من ناحية أخرى؛ لذلك قد تُهَدِّد المشاكلُ البيئيَّة الأمنَ القومي؛ من خلال التأثير على الانتعاش الاقْتِصَادي، والعدالة الاجتماعية.
اقرأ أيضًا:
كيف يستفيد رواد الأعمال من إيلون ماسك؟
روشتة ريادة الأعمال للحكومات العربية