قد تبدو عملية إدارة الجدول الزمني لحياتك العملية والشخصية بمثابة الخطوة الأولى نحو تطوير ذاتك؛ لكن مهلًا! فهناك ما يُسمى “الإفراط في تنظيم الوقت”؛ الذي قد يقضي بالضرورة على كل مخططاتك ويأكل الأخضر واليابس من طموحاتك وتطلعاتك المستقبلية.
لم يكن الإنسان في العصر الحالي ليعلم أن التقنيات الحديثة؛ التي اتخذت مسارًا جديدًا نحو بعض المصطلحات الصعبة مثل: إنترنت الأشياء، الذكاء الاصطناعي، أو الأمن السيبراني، ستغدو المتحكمة في زمام أمور الحياة برمتها؛ حيث اعتاد بنو البشر دائمًا على الانخراط في حياتهم وشؤونهم الخاصة، صغيرها وكبيرها على السواء، مواجهين المعضلات الأكبر التي تتمثل في إدارة الوقت، أو إدارة الأزمات الطارئة التي قد تفرضها التحديات عليهم.
تغيّر كل شيء بلمح البصر، وفي الفترة التي حرص فيها الإنسان على تطوير حياته، وإدخال العلم في تفاصيل كل شيء دون أي استثناءات، تناسى أن العلم ذاته يفرض الكثير من التحديات المختلفة، ويطرح الكثير من الأسئلة المتتالية؛ التي قد تُترك دون أجوبة، وباتت الفترة الزمنية لكل شيء محددة بجدول معين، ونمط روتيني صارم، وبالمعية وقع الإنسان في فخ الإفراط في تنظيم الوقت، والمحاولات المستميتة لاستعادة توازنه.
يؤكد علماء النفس أن التخطيط للوقت بطريقة جيدة يعتبر من الأولويات لحياة صحية وسليمة؛ بل إنهم يشددون على أهمية التخطيط للحياة بأكملها؛ لكنهم –وفي الوقت ذاته– حذروا من الإفراط في تنظيم الوقت، والإفراط في الاهتمام بإدارة تفاصيل الحياة.
مشكلة الإفراط في تنظيم الوقت
لا يُعتبر الإفراط في تنظيم الوقت مشكلة من الصعب حلها فقط؛ وفقًا للباحثين في شؤون الإنسان، بل إنها مشكلة السعي وراء المثالية التي يعكف عليها الأشخاص الذين يطلق عليهم لقب perfectionists، والذين يعملون طبقًا لأهوائهم وهوسهم الخاص لبلوغ أهدافهم دون الانتباه إلى أنهم الساعون وراء المثالية التي لا وجود لها في الأصل.
لن يخفى عليك أنه في ظل السعي وراء شيء ما بعينه فإنك تفقد السيطرة على آخر، فلا وجود للإنسان الذي يحصل على كل شيء، أو هكذا يبدو أن الحياة تحاول التلاعب بكل شخص على حدة، أو ربما تكون محاولتها الأهم في إعطائك الدرس الأقسى والأثمن لتعلم جيدًا أنه لن يمكنك التحكم فيها على الإطلاق.
فبينما تكتب قائمة طموحاتك للعام الجديد يأتي فيروس صغير لا يُرى بالعين المجردة ليسرق سنة من العمر دون أن تشعر. وفيما تعكف على الإفراط في إدارة الوقت وتفاصيل جدولك العملي أو الشخصي، تتوقف في مكانك دون حركة، تحاول التمتع بتفاصيل منزلك، والعمل من داخله، أو تغيير الديكور الخاص به، مع الالتزام بأسلوب حياة جديد رغمًا عنك.
وإن أمعنت النظر جيدًا، وعدت بشريط الذكريات إلى سنوات مضت، يمكنك أن تدرك ما نحاول تفسيره؛ فكم من مرة خططت لرحلة ما وتم إلغاؤها في اللحظات الأخيرة لأتفه الأسباب؟ وكم من مرة وضعت مخططات لعملك الجديد واضطررت لتركه دون علل مقنعة؟ وكم من مرة خططت مع أصدقائك لإطلاق مشروع ما وخانتكم مثابرتكم؟ والأمثلة تطول على ذلك المنوال.
لا أريد القول هنا إن التخطيط ليس بالأمر الجيد؛ بل إنه ضروري لمواصلة الحياة، والمضي قدمًا نحو تحقيق الأحلام وبلوغ الأهداف المنشودة؛ بل إنني أريد التأكيد أن التخطيط ما هو إلا مجرد وسيلة، وأن الفشل فيه هو لصالحك أيضًا، وربما يكون ذلك أهم من نجاح مخططاتك.
دروس الحياة
إن علمت كيفية سير الأمور فأنت بالضرورة تتمتع بالفراسة التي تجعلك تدرس كل المعطيات من حولك؛ لمعرفة النتائج، ولديك الاستعداد القوي لمواجهة كل ما هو طارئ؛ لكن إن واجهتك الصدمات والتحديات المفاجئة فأنت تدرك أنك تنضج على الصعيد الإنساني، وتتعلّم دروسًا جيدة تبقى معك أمد الدهر؛ بسبب مدرسة الحياة.
أما من ناحية الفترات الزمنية؛ فأنت من تضع الجداول، وتخطط لكيفية امتلاك كل الأسرار والمفاتيح الخفية التي يمكنها أن تذلل الصعوبات أمامك، وتفتح أبوابًا جديدة من النور داخل عقلك وقلبك على حد سواء.
ستكون مخطئًا إذا حاولت امتلاك جميع الحلول لكل المشاكل؛ وبالتالي فإن الإفراط في تنظيم الوقت يدق ناقوس الخطر، ويعتبر جرسًا لإنذارك بالعودة إلى القليل من العفوية؛ حرصًا على الحفاظ على شغفك بالحياة على الأقل.
ليس المعنى المقصود من الإفراط في تنظيم الوقت وإدارة الزمن أن تعمل وفقًا للروتين اليومي واعتماد قائمة من الأولويات، أو تفويض القليل من المهام من وقت إلى آخر؛ بل إن المفهوم هنا يسلط الضوء على الهوس المفرط بالتنظيم، والسعي إلى الكمال؛ ما يجعل الفرد يفقد كل شيء دون أن يدرك أينما أخطأ.
هناك من يفرط في التنظيم وإدارة الحياة مع الاستعانة بالكثير من الأوراق، والبريد الإلكتروني، مع العديد من التطبيقات الذكية وغيرها من الأمور التي قد تهدم ما تحاول بناءه من الأساس؛ أي كل تلك الأشياء تساهم في تضييع وقتك بدلًا من تنظيمه.
وأخيرًا: فإن الاعتدال يضفي خصائص كاملة على الجنس البشري دون محاولتهم للسعي إلى الكمال، وبه يمكن التخلص من عادة الإفراط في تنظيم الوقت، بل التخلص من الإفراط في كل شيء؛ ليكون أسلوبًا جديدًا للحياة المعتدلة البريئة التي تجمع القليل من كل شيء لتكتمل الصورة الكبيرة لإنسان شغوف، عفوي، مثابر، يصر على النجاح مع قليل من الفوضوية إن أمكن، من وقت إلى آخر.
اقرأ أيضًا:
الإجازة السنوية في العمل.. فوائد صحية وزيادة إنتاج
الموازنة بين الدراسة والعمل.. كيف تنظّم وقتك؟
التفكير الاستراتيجي في تنظيم الوقت.. الفكر والقيادة