لم يكن لويس برايل مخترعًا للنظام الكتابي الذي أنار دروبًا فسيحة أمام المكفوفين فحسب، بل كونه شخصًا مثابرًا، عنيدًا، صلب الإرادة، جعلته واحدًا من أهم الرواد في العالم.
فهذا الفتى أُصيب بالعمي عندما كان ابن ثلاثة أعوام فقط؛ حيث أصيبت إحدى عينيه عندما كان يلعب في ورشة والده الذي كان يعمل في مجال صناعة أسرجة الخيل.
لكن عينه الأخرى أصيبت بعدوى، وبعمر الخامسة أمسى الفتى لويس برايل أعمى بشكل كلي، كما كان سليل عائلة فقيرة، سوى أنه لا العمى ولا الفقر يمكنهما الوقوف في وجه الروح الكبيرة والهمة العالية.
فلويس برايل لم يتمكن من اختراع طريقة جديدة في الكتابة فحسب، ولكنه، وفي الآن ذاته، أصبح موسيقيًا بارزًا وتفوق في عزف الأرغن تحديدًا.
وإيمانًا من «رواد الأعمال» بأهمية هذا الرجل ومنزلته الرفيعة، وبمناسبة حلول ذكرى ميلاده (إذ وُلد في 4 يناير 1809م) قررنا إنارة بعض جوانب حياته، واستلهام الدروس والعبر منه ومن مسيرة كفاحه ونضاله مع الإعاقة والمرض وشظف العيش.
اقرأ أيضًا: بول سامويلسون.. رائد الاقتصاد الرياضي
ميلاد لويس برايل وسنواته الأولى
وُلد لويس برايل في الرابع من أبريل عام 1809م، وهو الطفل الرابع لسيمون رينيه ومونيك برايل. وكان والده يعمل في مجال صناعة الأحزمة والسروج وغيرها من أدوات الخيول.
وكانت ورشة والده في كوبفراي، مدينة صغيرة في شرق باريس، مسقط رأس لويس برايل، الذي فقد بصره وهو في الثالثة من عمره عندما فقد إحدى عينيه بالخطأ بواسطة عصا مثبت بها مثقابان في ورشة عمل والده.
عالج الطبيب المحلي العين وضمدها، ورتّب موعد للويس برايل مع جراح متمكن في باريس لكن الإصابة كانت بليغة، ثم أصيبت العين الأخرى، وببلوغه الخامسة كان فقد البصر كليًا في كلتا عينيه.
تلقى برايل الاهتمام والعناية والتشجيع مِمن حوله، وهذا كان من غير المألوف في ذلك الوقت؛ حيث عانى فاقدو البصر من سوء المعاملة والخدمات، وتعلم لويس التنقل في أنحاء قريته باستخدام عصا من صنع والده.
وفي فترة صباه، أبهر لويس برايل معلميه في مدينته بعقليته الفذة وتلقى التشجيع للحصول على تعليم أكثر.
تعلم برايل في مدينته حتى بلغ عمره 10 أعوام، ثم حصل على منحة تعليمية إلى معهد للمكفوفين اليافعين في باريس، سوى أن الأوضاع في المعهد كانت سيئة؛ إذ لم يكن يحصل الطلاب في العادة على أكثر من الخبز والماء للطعام، وأحيانًا كانت تُساء معاملتهم كنوع من العقاب.
وعلى الرغم من كل هذه الظروف وتلك المعاناة فإن لويس بريل كان طالبًا متفوقًا في المعهد، خاصةً في دروس الموسيقى.
وكان يوجد في المعهد آلة تكتب على الورق من جهة فتبرز من الجهة الأخرى ويلمسها الكفيف بإصبعه لقراءتها. هذا النظام كان له الكثير من السلبيات؛ إذ لم يكن نظامًا عمليًا لنشر الكتب. وكان المعهد يحتوي على 14 كتابًا بذلك النظام، وقرأها برايل جميعًا.
اقرأ أيضًا: رينيه ماغريت.. «إن رأيت فانظر»
طريقة برايل
لكن لويس برايل لم يصنع طريقته في الكتابة إلا بعد أن علمنا درسًا بليغًا في الإبداع؛ فطريقته لم تهبط عليه من السماء (في الحقيقة كل الإبداعات تُبنى على ما يسبقها وتكملها)، وإنما كان عبارة عن تعديل وتطوير طريقة قائمة وموجودة بالفعل.
ففي عام 1821 زار ضابط في الجيش الفرنسي، يُدعى “شارل باربيار”، المعهد، أبلغ خلالها لويس برايل بأنه ابتكر طريقة جديدة مشفرة للكتابة يستطيع بها الجنود التخاطب فيما بينهم في الأمور السرية بدون الحاجة للكلام، وتتمثل تلك الطريقة في أن تبرز على ورق سميك أشكالًا من النقاط أقصاها اثنتا عشرة نقطة، لكل منها دلالة كلامية.
سوى أن الطالب لويس برايل واجه صعوبة في فهم تلك الكتابة، فقام بتخفيض العدد الأقصى للنقاط من 12 إلى 6، وبدأ في العام نفسه العمل على اختراع طريقة كتابة جديدة، وانتهى في عام 1824 وهو بعمر 15 سنة. استخدم بريل في نظامه الجديد 6 نقاط فقط كرموز لحروف، بينما استخدم باربيار 12 نقطة كرموز لأصوات.
إذًا، اقترح لويس برايل، عندما كان في الخامسة عشرة من عمره، تعديلًا على طريقة الكتابة؛ بحيث يلبي احتياجات الأشخاص المكفوفين وضعاف البصر، في وقت لاحق كيّف برايل هذا النظام، الذي يتكون من رمز عبارة عن ست نقاط في مجموعات مختلفة، مع التدوين الموسيقي، ثم نشر أطروحة عن نظام الكتابة الخاص به في عام 1829، وفي عام 1837 نشر طبعة برايل المكونة من ثلاثة مجلدات لكتاب تاريخي شهير.
وبعدها أصبح برايل مدرّسا في المعهد، ولكن لم يتم اعتماد نظام كتابته الجديد في فرنسا إلا عام 1854، أي بعد وفاة لويس برايل بعامين.
اقرأ أيضًا: كالي بآتلو.. حين لا تجد سوى الكتابة سبيلًا
مرضه ووفاته
كان لويس برايل عليل الجسد، مصابًا بالعديد من الأدواء؛ إذ كان مريضًا في طفولته وساءت صحته عندما كبر، وعانى من أمراض دائمة في الجهاز التنفسي.
أصبح برايل معروفًا إلى حد ما كموسيقي وملحن ومعلم ، لكنه أصيب بمرض خطير من أمراض السل العضال (التهاب الرئة) في عام 1835 واضطر إلى الاستقالة من منصبه التدريسي. وعندما وصل مرضه لمرحله مميتة عاد إلى بيت عائلته في كوبفراي؛ حيث توفي عام 1852 بعد يومين من بلوغه سن الـ 43.
اقرأ أيضًا:
إيما لازاروس.. شاعرة الحرية والمتعبين
مارسيل بروست.. هل يعود الزمن المفقود؟
شارل إيميديه فيليب فان لو.. رائد فن البورتريهات