يأتي كتاب Nudge لمؤلفيه من ريتشارد ثالر وكاس سنشتاين _حتى وإن لم يكن المؤلفان واعيين بذلك_ متعالقًا مع نظرية الإدراك التي طرحها جون سيرل في كتابه «رؤية الأشياء كما هي»، بل مع كل تراث الفكر الفينومينولوجي الذي يرى أننا لا ندرك الأشياء بل هي التي تدركنا، ويتقاطع كتاب Nudge مع نظرية الاختيار العقلاني، إنه، وبعيدًا عن الحفر في جذور أفكار مؤلفيه، فحص لمسألتي الخطأ والاختيار في حياتنا الشخصية والمهنية على حد سواء.
وبالنسبة لقارئ متبحر فإن أفكار الكتاب كلها تقريبًا ليست بجديدة، ألم يقل فريدريك نيتشه من قبل: «الأخطاء أهم من الحقائق»، ناهيك عن مسائل مثل الاختيار والتحيز ومدى موضوعية أحكامنا الشخصية هي قضايا أسهب المفكرون، منذ قرون عدة، في فحصها واستجلاء شتى جوانبها، إلا أن الجديد هنا هو الطريقة التي يقترح المؤلفان بها توظيف الأخطاء، وكيفية الاستفادة منها في بيئات العمل اليوم. ومن هذه الزاوية بالذات قرر «رواد الأعمال» الإشارة إلى هذا الكتاب وإلقاء الضوء على بعض أفكاره.
اقرأ أيضًا: كتاب Creative Living.. دربك نحو السعادة
هندسة الاختيارات
نحن أمام واقعة ثابتة الآن وهي أن الناس يختارون طوال الوقت، إنهم يختارون الملابس التي يرتدونها، وماذا يأكلون، وكيفية استثمار أموالهم، والمرشحين الذين يدعمون، ومع ذلك، في حين أنهم غالبًا ما يختارون دون إكراه، فإنهم لا يختارون بدون تأثير؛ حيث يؤثر السياق الذي يتخذ فيه الأشخاص القرارات فيهم بشكل ملحوظ، وغالبًا عن قصد.
وبعيدًا عن التساؤلات الجانبية التي قد تثور هنا مثل: هل تحدد خياراتنا شخصيتنا؟ أليس من الممكن أن يكون اختياري هذا اللباس أو ذاك محض تأقلم مع المجتمع المحيط؟ وما هو مدى عقلانية ومنطقية الاختيارات التي اتخذها في هذا الموقف أو ذاك؟ كل هذه الأسئلة خارجة عن السياق الحالي، غير أن الاهتمام الأساسي لمؤلفي كتاب Nudge يتمثل في «سياقية الاختيار».
وإنما قصدنا بـ «سياقية الاختيار» السياق، العوامل، المؤثرات المحيطة بإقدام المرء على اختيار معين، وهما (أي المؤلفان) يلاحظان أن:
«التفاصيل الصغيرة وغير المهمة على ما يبدو يمكن أن يكون لها تأثيرات كبيرة في سلوك الناس».
ولكن الفكرة التي تمثل العمود الفقري في كتاب Nudge والمتعلقة بالاهتمام بسياق الاختيار؛ أي الأجواء التي يتم فيها اتخاذ الاختيار تتعارض مع الموقف الشائع والذي ينادي بـ «تعظيم الاختيارات»، أي كلما زادت الخيارات كان ذلك أفضل.
غير أن هذا ليس صحيحًا؛ فالاختيارات الكثيرة، مثلها في ذلك مثل الاختيار الشحيحة أو المحدودة، تحدث نوعًا من الإرباك والتشتت، فضلًا عن أنه حتى في ظل الاختيارات الكثيرة المتاحة سيختار المرء ما يجنح إليه عاطفيًا.
فنحن، وهذا على الرغم من الأهمية الكبرى التي منحتها الحداثة للعقل والمنطق والموضوعية، وللأسف غير عقلانيين بالمرة، وإنما تحركنا أهواء، ودوافع، وتحيزات شتى لا مجال لبسط القول فيها.
اقرأ أيضًا: كتاب «خرافة ريادة الأعمال».. مراحل نضج الشركات
الاختيار والتحيز والخطأ
نحن ندرك، حتى قبل أن يخبرنا مؤلفا كتاب Nudge، أننا متحيزون، لكننا، في الواقع، ما هي تحيزاتنا، ولا كيف نستفيد منها في تحسين اختياراتنا، وإزاحتها نحو المنطق والعقلانية ولو قليلًا. إليك، إذًا، طائفة من التحيزات التي تؤثر في سلوكنا واختياراتنا، كما يرصدها ريتشارد ثالر وكاس سنشتاين:
الإرساء: ما من شيء أشد عداوة للعقل وللتفكير المنطقي والاختيار السليم من تلك الحقيقة الشائعة أو التي أرساها المجتمع خلال حقبة من تاريخ تطوره، وأمست شائعة حتى اليوم. إننا نخضع، وبشكل تلقائي، إلى كل ما هو مألوف أو يحظى بإجماع عام، وتلك جناية في حق العقل.
من المرجح أن تفعل شيئًا ما إذا رأيت أنه يحدث كثيرًا، أو إذا كان زملاؤك يفعلونه. إن الرغبة في مواكبة المناخ الاجتماعي قوية جدًا بحيث يمكنها تغيير نظرتك إلى الواقع؛ قد ترى شيئًا مختلفًا حقًا إذا أصر أقرانك على أنه يبدو بطريقة معينة. هذا يعني أنه يمكنك توجيه الناس إلى سلوك أفضل بمجرد إخبارهم بما يفعله الآخرون.
التوفر: يحكم الناس على المخاطر بناءً على مدى سهولة الحصول على المعلومات ذات الصلة بها، فإذا كنت تعرضت لزلزال، فمن المرجح أن تشتري التأمين ضد الزلازل، حتى لو انتقلت للعيش في مكان لا يُحتمل حدوث زلازل فيه.
التمثيل: حيث يحكم الناس على الموقف الحالي بناءً على مدى تشابهه مع المواقف الماضية، وتلك مغالطة كبيرة، ولك أن تعلم _ونظرًا لتجذر مثل هذا النوع من التحيز في نظامنا الإدراكي والمعرفي_ أن الطب النفسي برمته محاولة لفهم حاضرنا على ضوء ماضينا، وتحريرنا من ربقة هذا الماضي ذاته.
وأخيرًا يحدث “الانحياز للوضع الراهن” لأن الناس يحبون أن تظل الأشياء كما هي، إنه الخوف المرضي من التغيير وليس إلا.
وإزاء كل هذه التحيزات، لدى مؤلفا كتاب Nudge إجابة واضحة وصارمة: تعديل بنية الاختيار وبيئته السياقية، اصنع لي عوامل جيدة، وساعدني في النظر إلى الأمر من مختلف الجوانب وسترى أني أختار «اختيارات عقلانية».
اقرأ أيضًا: كتاب How to Win Friends and Influence People.. قواعد النجاح والتأثير
مواجهة التحيز والاستفادة من الخطأ
يضعنا كتاب Nudge _وفقًا لزاويتنا التأويلية لأفكار مؤلفيه_ أمام تحيزاتنا، واختياراتنا غير المنطقية وجهًا لوجه، لكن ما الحل بحق؟
ينصح المؤلفان أن نفترض أن الناس سيرتكبون أخطاءً في بيئات العمل أو الحياة الشخصية، ومن ثم ليس علينا _كقادة فرق أو مدراء مؤسسات_ أن نصنع نظامًا يأخذ في اعتباره أخطاءنا المحتملة، وإنما أن يساعدنا في الاستفادة من هذه الأخطاء ذاتها، وهنا نتذكر مقولة نيتشه التي صدّرنا بها الكلام، فالحقيقة، إن كانت موجودة، فيها شيء من الجمود، أما الخطأ فيدفعنا إلى التحسين والتطوير.
اقرأ أيضًا:
كتاب «فكر تصبح غنيًا».. المصدر السري للثروة
كتاب «أدوات العظماء».. التعلم من تجارب الآخرين
كتاب «ارسم مستقبلك بنفسك».. مبادئ للنجاح