يطرح كال نيوبورت في كتاب Deep Work فكرة بالغة الغرابة، إن نحن نظرنا إليه من زاوية تأويلية مخصوصة، وهي أن الملل والضجر قد يكونان أحيانًا دافعًا لما يسميه المؤلف «العمل العميق»؛ فهو يصنف، أولًا، ما نقوم به من أعمال إلى نوعين: عمل ضحل، وعمل عميق.
وهذا الأخير، ثانيًا، هو الذي يتطلب انقطاعًا كليًا عن كل المشتتات، واحتضانًا لكل ما يأنفه المرء وتأباه النفس، مثل عدم تصفح حسابات مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من المشتتات التي اشتهر بها عصرنا الحالي.
لكن ما هو العمل العميق حقًا؟ يطرح صاحب كتاب كتاب Deep Work التعريف التالي:
«العمل العميق هو مجموع الأنشطة المهنية التي يتم إجراؤها في حالة من التركيز الخالي من الإلهاء، والتي تدفع بقدراتك المعرفية إلى أقصى حدودها».
وهو عمل استنزافي، إن جاز هذا الوصف، فهو يعصر عقلك حتى آخر قطرة:
«العمل العميق ضروري لانتزاع كل قطرة أخيرة من قدرتك الفكرية الحالية».
إننا إذًا مطاردون بنوعين من الأعمال: أعمال عميقة وأخرى ضحلة _تلك هي تقسيمة مؤلف كتاب Deep Work_ وواجبنا إن نحن أردنا أن نظفر بنجاح مهني تُرفع له الرأس أن نقلل من هذه الأعمال الضحلة أو نؤتمتها؛ أملًا في تفريغ أذهاننا وعقولنا لتلك الأعمال التي يتعين علينا أن نكرس لها أنفسنا بشكل كامل.
اقرأ أيضًا: كتاب Rework.. التخطيط محض تخمين
التركيز المستمر والممارسة المتعمدة
يتعاطى كتاب Deep Work مع أزمة راهنة يعاني منها إنسان العصر الحديث وهي أزمة التشتت وانعدام القدرة على التركيز، وهو، في سبيل مواجهة معضلة كهذه، يطرح فكرة «الممارسة المتعمدة»؛ فإذا أردت أن تنقطع إلى عملك «العميق» بالكلية، وأن تستنزف فيه فكرك، وأن تمنحه عصارة أفكارك، فلا بد أن تتعمد ذلك، بل أن تتعمد كل الطرق التي تهيئ لك ذلك، أي التخلي عن كل ما يشتت انتباهك ويبعثر عزيمتك.
والمسألة هنا، كي لا تفزع، تتعلق بانقطاع مؤقت، أي أن العمل العميق غير شائع؛ أغلب الناس مشتتون بسبب الهواتف النقالة ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، ولكنه، على الرغم من ذلك، عمل مؤقت.
فأنت تنقطع عن كل ما هو موجود حولك، وتنصرف إلى عملك، بالأحرى إحدى مهام العمل العميق، لفترة محدودة، على أن تنهيها مرة واحدة أو على دفعات، قبل أن تنتقل إلى غيرها، فمؤلف كتاب Deep Work لا يؤيد _وهو في ذاك يعزف على وتر واحد يعزف عليه كثير من الخبراء والمؤلفين_ فكرة «تعدد المهام» ولا المبادلة بين المهام وبعضها.
فمن شأن تصرف كهذا _أي التنقل بين مهمة وأخرى_ أن يؤدي بك إلى ما يسميه المؤلف «بقايا الانتباه»؛ إذ يكون جزء من انتباهك/ تركيزك منصبًا على مهمة سابقة (انتقلت منها لتوك) وجزء آخر مُكرسًا لمهمة حالية (انتقلت إليها حالًا). ما تفعله، إذًا، بهذه الطريقة هو تشتيت انتباه نفسك لا أكثر.
اقرأ أيضًا: كتاب The Five Dysfunctions of a Team.. لماذا لا تنجح فرق العمل؟
الانتباه وصنع الواقع
دعنا ننتقل إلى فكرة مثيرة يطرحها كتاب Deep Work، هو طبعًا فيها مسبوق لكنها حرية بالتأمل والنظر، هو يقول إن الواقع وليد الانتباه، بمعنى أن ما تمنحه انتباهك سيكون هو واقعك، وربما سيتشكل واقعك وفقًا لتلك المعطيات التي تمنحها من انتباهك.
ولهذا يقول كتاب Deep Work:
«لكي تنجح في العمل العميق، يجب عليك إعادة توصيل دماغك ليكون مرتاحًا لمقاومة المحفزات المشتتة للانتباه».
وقلنا إن المؤلف مسبوق في هذه الفكرة، وآن أوان التدليل على ذلك: فالفلاسفة الفينومينولوجيون يذهبون إلى أن الواقع كامن في الوعي _نحن هنا أبعد ما نكون عن فرويد وفكرة اللاوعي بشكل أساسي_ وأن هذه الوقائع التي يعج بها العالم لا تنطوي على أي معنى في ذات نفسها، هي وقائع خرساء، والوعي هو الذي ينطقها، هو الذي يضفي عليها معنى، ويخلع عليها بعضًا من تأويلاته وتصوراته.
غاية ما يريد مؤلف كتاب Deep Work قوله: كن حريصًا على ما تصرف إليه انتباهك فواقعك يُصنع من خلاله تباعًا.
اقرأ أيضًا: كتاب The Power of Now.. التنوير الروحي والمساعدة الذاتية
كيف تعمل بعمق؟
ذاك سؤال أخلق بنا أن نطرحه، وحري بمؤلف كتاب Deep Work أن يجيب عنه، وهو يقول، في معرض إجابته عن هكذا سؤال، إنه من الواجب عليك أن تؤسس روتين عمل عميقًا، فتتخلص طواعية من كل المشتتات، مؤقتًا أو بشكل دائم؛ حيث يساعدك تطوير روتين عمل عميق في الحفاظ على تركيزك.
اقرأ أيضًا:
كتاب «أغنى رجل في بابل».. الثراء على طريقة «أركاد»
كتاب «قواعد السطوة».. أسس السيطرة الناعمة
كتاب Nudge.. ثالوث التحيز والخطأ والاختيار