في خضم التحولات العميقة التي شهدتها اليابان في مطلع القرن العشرين؛ حيث كانت الرياح تهب حاملةً بذور التغيير والتطور، برزت أسماء لامعة أسهمت في تغيير مسار الصناعات الثقيلة، وكان من بينها ساكيشي تويودا، الرجل الذي لم يكن مجرد مبتكر تقني، بل كان رمزًا لثورة صناعية عميقة أثرت في العديد من القطاعات. ففي ذلك الزمن الذي كانت فيه الآلات بدائية والأيدي العاملة تعتمد على القوة البدنية، ظهر هذا العبقري الياباني ليحدث ثورة في عالم الصناعة، ويرسم ملامح مستقبلٍ جديدٍ يعتمد على الابتكار والتكنولوجيا.
علاوة على ذلك، فإن قصة ساكيشي تويودا ليست مجرد سيرة ذاتية لرجل أعمال ناجح، بل هي ملحمة كفاح وعزيمة، تتجسد في كل اختراع ابتكره، وفي كل خطوة قطعها نحو تحقيق رؤيته. فمن خلال آلاته النسيجية المتطورة، التي كانت بمثابة ثورة في صناعة النسيج، وصولًا إلى تأسيس شركة تويوتا للسيارات، التي أصبحت رمزًا للصناعة اليابانية، أثبت تويودا أن العقل الياباني قادر على منافسة أكبر الشركات العالمية، بل وتجاوزها في بعض الأحيان.
ساكيشي تويودا
كما أن مساهمات ساكيشي تويودا تتجاوز الإطار الصناعي، لتصل إلى عمق الفكر الإداري. فمبدأ “الـ 5 لماذا؟” الذي ابتكره، أصبح أداة أساسية لحل المشكلات في العديد من الشركات حول العالم. ويمثل هذا المبدأ فلسفة تويودا في البحث الدائم عن الجذور الحقيقية للمشاكل، والعمل على حلها بشكل جذري. من ناحية أخرى، فإن نظام الإنتاج التويوتا الذي طوره، والذي يعتمد على مفهوم “السيستم الجيد”، أصبح نموذجًا يحتذى به في مجال إدارة الإنتاج؛ حيث يساهم في تقليل التكاليف وزيادة الكفاءة.
بينما كان العالم مشغولًا ببناء مصانع ضخمة وخطوط إنتاج طويلة، كان ساكيشي تويودا يركز على التفاصيل الصغيرة، وعلى أهمية العنصر البشري في عملية الإنتاج. فكان يرى أن العامل ليس مجرد جزء من الآلة، بل هو شريك في عملية الإبداع. في حين أن الكثيرين كانوا يرون أن التكنولوجيا هي الحل لكل المشكلات، كان تويودا يؤمن بأن التكنولوجيا يجب أن تكون في خدمة الإنسان، وأن الابتكار الحقيقي هو الذي يخدم المجتمع.
نشأة مبكرة
ولد ساكيتشي تويودا -العقل المدبر وراء إمبراطورية تويوتا العملاقة- في 14 فبراير عام 1867م، بقرية ياماجوتشي اليابانية المتواضعة. نشأ الابن البكر لإيكيتشي وإي تويودا في بيئة ريفية بسيطة؛ حيث ورث عن والده -النجار الماهر- مهارات يدوية بارعة وحبًا عميقًا بالعمل. كما تزامن ولادته مع فترة تحولات اجتماعية وسياسية عميقة في اليابان؛ إذ شهدت البلاد انتقالًا دراماتيكيًا من عصر الساموراي إلى عصر ميجي الحديث، الذي كان حافلًا بالتحديات والفرص.
كذلك، لم يقتصر تأثير البيئة المحيطة على ساكيتشي على الصعيد المهني فحسب، بل امتد ليشمل تكوين شخصيته وتطلعاته المستقبلية. ففي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تعاني منها قريته، ازدادت لديه الرغبة في أن يساهم في تطوير مجتمعه وخدمة وطنه.
وفي سن مبكرة، كشف ساكيتشي عن شغفه بالتعلم والمعرفة، فبعد أن أنهى دراسته الابتدائية، انضم إلى والده في ورشة النجارة، مستغلًا أوقات فراغه في القراءة والاطلاع على مختلف المجالات. من ناحية أخرى، لم يكتفِ ساكيتشي بتطوير ذاته فحسب، بل سعى إلى نشر المعرفة بين أقرانه، فقام بتأسيس مجموعة دراسية مسائية شجعت الشباب على التعلم الذاتي.
بينما كان ساكيتشي يطمح إلى تحقيق إنجازات عظيمة، في حين كان يدرك حجم التحديات التي تحيط به، فقد واجه صعوبة في تحديد الطريق الأمثل لتحقيق أهدافه. ومع ذلك، فإن هذا الشاب الطموح لم يستسلم، بل استمر في البحث عن فرص جديدة واكتشاف إمكاناته الكامنة.
الشرارة الأولى للاختراع
في سن الثامنة عشرة -مع صدور قانون براءات الاختراع الجديد في اليابان- استشعر تويودا فرصة ذهبية لتحويل أفكاره إلى واقع ملموس. وقد أدرك مبكرًا أن الحضارة الغربية تعتمد بشكلٍ كبير على الآلات التي تعمل بالبخار، وهو ما يتطلب كميات هائلة من الفحم، الأمر الذي دفعه إلى التفكير في إيجاد مصدر طاقة بديل أكثر كفاءة.
بدأ تويودا رحلة طويلة من التجارب والخطأ؛ حيث سعى جاهدًا لاكتشاف مصدر طاقة دائم وغير محدود ليحل محل البخار. ورغم عدم نجاحه في هذا المسعى، إلا أنه لم يستسلم، بل حول اهتمامه إلى تحسين أداء المغزل اليدوي المستخدم في المنازل، إيمانًا منه بأن مثل هذا الاختراع سيخدم فئة كبيرة من المجتمع.
ولادة النول الآلي
في حظيرة متواضعة، بدأ تويودا في بناء وتدمير نماذج متعددة من النول، متجاهلًا نظرات الدهشة والاستغراب من حوله. فكان شغفه بالابتكار أكبر من أي شيء آخر. وبعد سنوات من العمل الدؤوب، نجح في عام 1890م في تصميم أول نموذج لنول تويودا الخشبي اليدوي، وحصل على براءة اختراعه في العام التالي، وهو في سن الرابعة والعشرين فقط.
علاوة على ذلك، سافر تويودا إلى طوكيو، في خريف عام 1890م، لحضور المعرض الوطني الثالث للآلات؛ حيث أُذهل بكمية الآلات الحديثة المعروضة. وقد أمضى شهرًا كاملًا في دراسة هذه الآلات وفهم آلية عملها، ما زاد من حماسه للعمل على تطوير اختراعه.
ويعد حصول تويودا على براءة اختراع النول الآلي في عام 1891 لحظة فارقة في تاريخ الصناعة اليابانية. فقد مهد هذا الاختراع الطريق لتأسيس شركة تويوتا لصناعة السيارات، التي أصبحت واحدة من أكبر شركات صناعة السيارات في العالم.
نول تويودا الخشبي اليدوي
على الرغم من نجاح نول تويودا الخشبي اليدوي في زيادة الكفاءة بنسبة تتراوح بين 40% و50% وتقليل عيوب النسيج، إلا أن اعتماده على الطاقة اليدوية شكل عائقًا أمام تحقيق المزيد من التطوير. لذا، وجه تويودا أنظاره نحو تحقيق حلم النول الكهربائي.
تأسيس المصنع الأول
في عام 1892، أسس تويودا مصنعًا صغيرًا في طوكيو لإنتاج أنواله الخشبية اليدوية. كان الهدف من هذا المصنع هو تحقيق الاستقلال المالي وتسويق اختراعه بشكلٍ أفضل. ورغم النجاح الأولي الذي حققه المصنع، إلا أنه أغلق أبوابه بعد عام واحد بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة.
وبعد إغلاق المصنع، عاد تويودا إلى مسقط رأسه وقرر تكريس جهوده لتطوير النول الكهربائي. ولتمويل أبحاثه، اخترع آلة لف الخيوط عالية الكفاءة، والتي حققت نجاحًا تجاريًا كبيرًا.
ولادة النول الكهربائي
في عام 1896م، نجح تويودا في تطوير أول نول كهربائي في اليابان. تميز هذا النول بكفاءة عالية وجودة ممتازة؛ حيث استخدم البخار لتشغيل حركاته الرئيسية وتم تجهيزه بآلية إيقاف تلقائي للسداة.
وأثارت كفاءة النول الكهربائي الجديد إعجاب العملاء، ما دفع تويودا إلى تأسيس شركة لإنتاج الأقمشة القطنية عالية الجودة. وبعد فترة وجيزة حققت هذه الشركة نجاحًا كبيرًا، ما لفت انتباه شركات كبرى مثل ميتسوبيشي.
النول التلقائي الأول في العالم
في عام 1903م، حقق ساكيتشي تويودا إنجازًا تاريخيًا باختراعه أول نول تلقائي لتغيير المكوك في العالم. هذه الآلية الثورية، التي سميت بنوع T، كانت قادرة على استبدال خيوط السداة تلقائيًا دون الحاجة إلى إيقاف تشغيل النول. ومع ذلك، لم تكن نتائج الاختبارات الأولية لهذه الآلية مرضية تمامًا؛ ما دفع تويودا إلى إدراك أهمية إجراء تجارب تجارية شاملة للتأكد من كفاءة أي اختراع جديد.
من ناحية أخرى، وأثناء رحلة مراقبة إلى الولايات المتحدة، التقى تويودا بالدكتور جوكيتشي تاكامين، وهو عالم مشهور عالميًا. من خلال محادثاته مع الدكتور تاكامين، توصل تويودا إلى قناعة راسخة بأن المخترع يتحمل مسؤولية تطوير اختراعاته إلى منتجات عملية تساهم في التقدم الاجتماعي. هذه النصيحة ألهمت تويودا وأصبحت دافعًا قويًا له في مسيرته الابتكارية.
التطوير المستمر للنول الكهربائي
وفي مطلع الربع الثاني من عام 1905، قدم تويودا نسخة محسنة من النول الكهربائي، والتي تميزت بهيكل قوي وآلية تحرير سداة أكثر كفاءة. وفي العام التالي، تم إطلاق نسخة أخرى أكثر تطورًا حققت زيادة ملحوظة في الكفاءة وجودة النسيج.
كذلك، لم يكتف تويودا بالإنجازات التي حققها في مجال النول الكهربائي، بل سعى إلى تحقيق هدف طموح يتمثل في اختراع نول دائري يعمل بكفاءة عالية. هذا النوع من النول كان يعتمد على حركة دائرية بدلًا من الحركة المتبادلة المستخدمة في النول التقليدي. ما كان من شأنه أن يزيد من كفاءة الإنتاج ويحسن جودة النسيج.
تأسيس شركة تويودا للأجهزة النسيجية
في ربيع عام 1907م، تم تأسيس شركة تويودا للأجهزة النسيجية بهدف إنتاج وتسويق أنوال تويودا. تولى تويودا منصب المدير الإداري والمهندس الرئيسي للشركة. ولكنه واجه تحديات كبيرة بسبب الاختلاف في الرؤى بينه وبين المساهمين حول أهمية إجراء التجارب التجارية الشاملة.
وبسبب الإصرار على إجراء تجارب تجارية شاملة، قرر تويودا إنشاء مصنع تجارب خاص به في عام 1909م. وعلى الرغم من النجاح الذي حققه هذا المصنع، إلا أن شركة تويودا للأجهزة النسيجية واجهت صعوبات مالية. ما دفع تويودا إلى الاستقالة من منصبه في الشركة.
وبعد الاستقالة، قام تويودا برحلة مراقبة إلى الولايات المتحدة وأوروبا لزيارة مصانع النسيج ودراسة أحدث التقنيات. هذه الرحلة عززت ثقته في تفوق أنواله وألهمته لمواصلة جهوده الابتكارية.
تأسيس مصنع تويودا للأجهزة النسيجية
بعد رحلة استطلاعية ناجحة إلى الولايات المتحدة وأوروبا، عاد ساكيتشي تويودا إلى اليابان مصممًا على تطبيق أفكاره الابتكارية. وفي مطلع الربع الثالث من عام 1911، أسس “مطحنة النسيج الآلية تويودا” في ناغويا؛ حيث خصص مكانًا لإجراء التجارب وتطوير اختراعاته. هذا الموقع أصبح فيما بعد متحف تويوتا التذكاري للصناعة والتكنولوجيا، شاهدًا على بداية رحلة تويودا نحو تحقيق رؤيته.
وإدراكًا لأهمية الغزل عالي الجودة في تطوير أنواله، قام تويودا بتوسيع مصنعه ليشمل عمليات الغزل في عام 1914م. وبفضل الظروف الاقتصادية المزدهرة خلال الحرب العالمية الأولى، شهد المصنع نموًا سريعًا. وفي عام 1918م، تم تأسيس شركة “تويودا للغزل والنسيج” لتدبير شؤون المصنع بشكل أكثر فعالية.
الانتقال إلى الصين
لم يكتفِ تويودا بالنجاح المحلي، بل نظر إلى الأسواق العالمية. وفي مطلع الربع الثاني من عام 1918م، سافر إلى الصين لدراسة صناعة النسيج هناك، وقرر بعدها الاستقرار في شنغهاي لإنشاء مصنع جديد. كان هدفه من ذلك هو توسيع نطاق أعماله والوصول إلى أسواق جديدة.
وبعد سنوات من الجهد والبحث، نجح تويودا في تطوير النول التلقائي غير المتوقف لتغيير المكوك في عام 1924م. تميز هذا النول بكفاءة عالية وجودة إنتاجية فائقة، لدرجة أنه لقب بـ “النول السحري” من قبل مهندس بريطاني.
وفي عام 1926م، تم تأسيس شركة “تويودا للأجهزة النسيجية الآلية” بهدف تصنيع وتسويق أنوال تويودا. وكان من أهداف الشركة الرئيسية مواصلة البحث والتطوير في مجال النسيج، وهو ما يعكس إيمان تويودا بأهمية الابتكار المستمر.
الاعتراف العالمي بنول تويودا التلقائي
سرعان ما اكتسب نول Type G التلقائي الذي ابتكره ساكيتشي تويودا شهرة عالمية. ما لفت أنظار كبرى الشركات المصنعة للآلات في العالم. ففي عام 1929م، أبرمت شركة تويودا اتفاقية نقل حقوق براءة الاختراع مع شركة Platt Brothers & Co. Ltd وهي إحدى الشركات الرائدة في مجال صناعة آلات النسيج في إنجلترا. هذا الاتفاق منح شركة Platt Brothers الحق الحصري في إنتاج وتسويق نول Type G التلقائي في جميع أنحاء العالم باستثناء اليابان والصين والولايات المتحدة.
كان هذا الحدث بمثابة نقطة تحول في تاريخ الصناعة اليابانية؛ حيث تم الاعتراف بابتكار ياباني على المستوى العالمي. وقد عزز هذا الاتفاق ثقة اليابانيين في قدراتهم الإبداعية والتكنولوجية.
رحيل رائد الصناعة
توفي ساكيتشي تويودا في أكتوبر عام 1930م، تاركًا إرثًا عريقًا في مجال الصناعة والابتكار. وقد كرس حياته، التي امتدت لـ 63 عامًا، للبحث والتطوير في مجال النسيج.
ولتكريم هذا الرجل العظيم، الذي كان الداعم الروحي لشركات تويودا. تم بناء نصب تذكاري له، ووضع تمثال نصفي له في الذكرى السنوية الخامسة لوفاته. كما تم جمع “وصايا تويودا” التي تلخص فلسفته وأفكاره، بهدف نشرها بين جميع موظفي شركات تويودا.
بعد وفاة تويودا، استمرت شركاته في النمو والتوسع. ففي عام 1935م، كان هناك ثماني شركات تابعة لمجموعة تويودا، ويعمل بها أكثر من 13000 موظف. وقد ساهمت هذه الشركات بشكل كبير في تطوير الصناعة اليابانية.
في النهاية، يمكن القول إن قصة نجاح ساكيتشي تويودا ليست مجرد سيرة ذاتية لرجل أعمال ناجح، بل هي قصة عن قوة الإرادة والعزيمة. وقصة عن كيف يمكن لشخص واحد أن يغير العالم من حوله. إنها قصة تلهمنا جميعًا بأن نؤمن بقدراتنا وأن نسعى لتحقيق أحلامنا. مهما كانت التحديات التي تواجهنا. فكما قال تويودا ذات مرة: “الابتكار هو مفتاح التقدم”.