في نهاية العام 2017؛ أي مع بدايات مرحلة التحول الوطني بالمملكة، وتدشين رؤية 2030، كتبت حينها مقالًا بعنوان “رواد الأعمال بعد تغير الأحوال”، لأؤكد على أن المرحلة القادمة في عالم الأعمال يجب أن تكون لرواد الأعمال المحترفين، وتحدثت كثيرًا مع العملاء عما أسميته حينها بمرحلة “المسبح العميق”.
وكنت أعني أنه لا يوجد في عالم (مسبح) الأعمال الآن مساحة مناسبة لسباحة الأطفال أو متوسطة العمق لأنصاف السباحين؛ لأن المسبح الآن كله عميق ومهيأ للمحترفين فقط، وتحدثت عن ضرورة استعانة رواد الأعمال بالخبراء والاستشاريين الممارسين الفعليين، الذين يجيدون التعامل مع الظروف الاقتصادية المختلفة، من رخاء وركود وكساد وأزمات؛ ليكونوا ضمن فريق العمل لديهم، مقتدين بالشركات الكبرى التي تجعل في مجالس إداراتها خبراء في مجال الأعمال العامة والمتخصصة؛ ما جعلها تحقق التنمية المستدامة التي يجب أن تنشدها كل القطاعات العامة والخاصة وحتى القطاع الثالث.
واليوم، أكرر هذه الكلام وبصوت أعلى من صوت كورونا؛ إذ قلت غادر بعض رواد الأعمال الملعب؛ ليجلسوا بالمدرجات، ينظرون ماذا يحدث في المسبح الذي ازداد بعد العمق ظلمة، وقد كثر التنظير والتدريس والتدريب أمامهم، فرأينا – للأسف – كلَّ من هبَّ ودبَّ قد أصبح مدربًا ومستشارًا، يلقي لرواد الأعمال- من كل منبر- محاضرات “نظرية”، وكثيرًا من ساعات التدريب الأكاديمية، بل ويسلمهم “شهادة حضور الدورة”.
لقد أصبحت الساحة مفتوحة لكل من قرأ عن الإدارة العامة أو التنفيذية ولو صحيفة، ومن بعدها حقيبة تدريبية لا تختلف كثيرًا عن غيرها، إلا في ترتيب الصفحات أو ألوان العناوين؛ حتى خشيت أن يصبح التدريب مهنة من لا مهنة له، وهي للأسف ظاهرة في معظم دول المنطقة، إلا من رحم الله من الخبراء والاستشاريين الحقيقيين، وقليل منهم من مارس الإدارة لعقود من الزمن، وقليل من يعلمون متى يُتخذ القرار السليم.
اقرأ أيضًا: العمل من المنزل
الدورات التنفيذية
في عام 2005 درست دورة مدير الأعمال المؤهل (CBM Certified Business Manager)؛ وهي دورة تنفيذية متميزة زادت مدتها عن 120 ساعة تدريبية، تبعها اختبار ومشروع؛ للحصول على ماجستير مهني تعتمده جامعة هارفارد. كان يدرس لنا التسويق، مدير التسويق بأكبر شركة مشروبات غازية في العالم، ويدرس لنا المبيعات نظيره من شركة أخرى عملاقة. وهكذا في جميع الإدارات: المالية، والموارد البشرية، والجودة…الخ؛ لذا كانت الدورة فعلًا ذات فائدة؛ لأن كلًا منهم شرح لنا عدة حالات، ومشاكل حقيقية، واجهها خلال ممارسته العملية، فلم يكن بالمادة العلمية كثير من التنظير أو التعليم الأكاديمي؛ لذا غيرت هذه الدورة مسار حياتي العملية تمامًا.
اقرأ أيضًا: كوفيد 19.. ورواد الأعمال
الاستعانة بالخبراء
ما أريد التنويه إليه، عدة نقاط مهمة:
على رواد الأعمال- وخاصة المبتدئين – في ظل ما هو قادم من ظروف اقتصادية هي الأقسى، الاستعانة بخبراء أو استشاريين متخصصين لمعاونتهم في إدارة أعمالهم، وتجنب المكابرة وادعاء العلم والخبرة، فكلٌ ميسرٌ لِما خُلِق له. عليهم أن يضعوا نصب أعينهم قوله تعالى: “إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ”، وقوله تعالى عن نبينا الله يوسف عليه السلام: ” قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ”، ولو كان ذلك على سبيل الاستشارات الدورية أو الشهرية أو ربع السنوية بنظام جزء من الوقت “Part-time” أو أي نظام آخر يناسب هؤلاء الخبراء؛ ليقيِّموا أداء أعمالكم ومدى تقدمها وتطورها، ويعالجوا الانحرافات أولًا بأول، بحيث لا يكلفوكم رواتب ثابتة تثقل كاهلكم.
إن العمل الحقيقي أو ممارسة نشاط ريادة الأعمال فعليًا، يختلف عما يتلقونه من نظريات ومقالات وكتب ومحاضرات وندوات، فقد تجد رائد أعمال لم يدرس شيئًا في مجال ما، ولكنه تميز في أدائه الفعلي، وأصبح يُشار إليه بالبنان؛ كأحد رموز النجاح في هذا المجال، قد يكون مرجع ذلك إلى ممارسته الفعلية أو أنه ورث الأعمال من قريب، بعد أن انخرط في العمل، أو غيرها من الأسباب.
امام رواد الأعمال والشركات والمؤسسات بصفة عامة، فرصة لإعادة ترتيب أوراقهم بالكامل، بدايةً من تصميم الطبيعة القانونية للكيان- سواء كان مؤسسة فردية أو شركة- حتى إعادة الهيكلة الكاملة أو الجزئية والحوكمة، والتخطيط من البداية في طرق التمويل، ومنهجية العمل وأسلوب الإدارة، والإنتاج، والتشغيل، والتسويق؛ للحفاظ على موقفهم الاقتصادي الحالي كهدف مبدئي، يمكن تغييره لاحقًا.
الفرصة سانحة الآن أمام الخبراء والاستشاريين المستقلين أو المكاتب الاستشارية الإدارية والمالية والاقتصادية؛ ليفيدوا ويستفيدوا، ويضعوا النقاط على الحروف من خلال تطبيق الحلول الفعلية لديهم “دون تنظير”، وأن يكون التدريب على رأس العمل. ولقد جربت هذا الموضوع بنفسي خلال عقدين من الزمان، وفي مجالات مختلفة؛ خلال قيامي مع فريق العمل بأعمال تحليل وتخطيط وتنظيم وحوكمة أعمال وتقويمها وتصحيح مسارها؛ إذ أثبت التدريب على رأس العمل فاعلية لا تقارن بنتائج عشرات الساعات من التدريب والتنظير الأكاديمي.
اقرأ أيضًا: فن إدارة التحديات
الاستشارة عن بعد
ولقد سرني اتصال قبل أيام من شركة مقاولات ترغب في إسناد إدارة الموارد البشرية إلى من يعمل معها عن بعد لمدة 4 أيام أسبوعيًا بواقع ساعتين إلى ثلاث يوميًا، وهو نظام معروف عالميًا بـ “Outsource”، يقلص إلى حد كبير التكاليف الثابتة بالشركات وخاصة المصروفات الحكومية وما يتبعها لأقل قدر ممكن. ويمكن تطبيق نفس المنهجية بباقي الإدارات والأنشطة، بل كان هذا النظام نواة قيام الشركات المتخصصة في إدارة وتشغيل أنشطة الفنادق والمستشفيات والمدراس، وغيرها من الأنشطة التجارية والعقارية ومجالات الأعمال الأخرى.
من ناحية أخرى، على الخبراء والاستشاريين- وخاصة من هم فوق عمر الأربعين- تطوير أنفسهم، والتوافق السريع مع الأساليب التقنية الحديثة في الإدارة والتقويم، وخاصة أساليب التواصل، ومناهج تحليل الأعمال، ومتابعة الإجراءات والتقارير، وصياغة النتائج، بحيث تكون واضحة، وفي وقتها المناسب؛ حتى يمكن الاستفادة العامة منها.
لا شك في أنًّ هناك بالفعل أزمة أو شحًا في المدراء الأكفاء المتميزين، وهي مشكلة سائدة في عالمنا العربي؛ وذلك لأسباب معظمها معروف، ولا مجال لذكرها الآن؛ حتى لا نخرج عن الموضوع.
وهنا لا بد أن نشير إلى مبادرات الدولة لمساندة رواد الأعمال علميًا وماليًا وإداريًا وفنيًا؛ من خلال عدة منصات وهيئات وجهات تنموية متعددة، يمكن لرواد الأعمال عمل توليفة متكاملة منها؛ لتحقيق الاستفادة القصوى منها، فضلًا عن استشارات المستقلين أو الخبراء.
اقرأ أيضًا:
المقومات التسعة لشخصية رائد الأعمال