تناولنا خلال المقالات السابقة مشكلة البطالة من حيث المفهوم والأسباب والأنواع والآثار المختلفة، ونوضح في هذا المقال كيفية علاج ومواجهة مشكلة البطالة ونستعرض الأساليب المختلفة التي تستخدمها الدول لحل هذه المشكلة وأي هذه الطرق أفضل؟
البطالة هي حالة عجز تصيب سوق العمل بحيث يكون الطلب على العمل أقل من عرض العمل (الباحثين عن العمل). وقد يزداد هذا العجز (البطالة) عندما ينمو عرض العمل بمعدل أعلى من معدل الطلب على العمل، وحتى يبقى معدل البطالة في فترة ما ثابتًا لا بد أن يتساوى معدل نمو طلب العمل (فرص العمل المستحدثة) ومعدل نمو عرض العمل (النمو في عدد الباحثين عن عمل)، ولو أردنا أن نناقش حل هذه الظاهرة ببساطة يمكننا تأكيد أن الحل يكمن في تقليل عرض العمل أو زيادة الطلب على العمل أو كليهما حتى نصل إلى أقل فجوة ممكنة وهي مستوى البطالة الطبيعية. نحن نعلم أن تقليل عرض العمل أو تقليل معدل دخول قوة العمل إلى سوق العمل أمر صعب، لا سيما في ظل التزايد المستمر لعدد السكان ضمن سن العمل وزيادة الخريجين، ولكن ما يمكن عمله هو تنظيم عرض العمل، وتأهيله ليلائم الاحتياجات من حيث الكم والنوعية المطلوبة. وقد يرى البعض أن تحفيز وزيادة الطلب على العمل هو الأسهل، ولكن كيف يمكن زيادة الطلب على العمل وزيادة التشغيل؟ ومن المسؤول؟
تشير الكتب التي تناقش النظرية الاقتصادية إلى أن مشكلة البطالة يمكن مواجهتها بطريقة مباشرةً من خلال السياسات الحكومية المعروفة، وهي السياسة المالية التوسعية والسياسة النقدية التوسعية. وتنطوي السياسة المالية التوسعية على زيادة الحكومة للإنفاق الحكومي أو التقليل من الضرائب بهدف تحفيز الاقتصاد وزيادة الإنتاج، وبالتالي التقليل من البطالة. إن هذه الأدوات ليست حلولًا سحرية؛ إذ يبرز إلى السطح سؤال مهم وهو: هل تستطيع الحكومة الاستمرار في زيادة الإنفاق الحكومي أو تقليل الضرائب إذا كانت تعاني من عجز في الموازنة العامة إضافة إلى العديد من الاختلالات الأخرى؟ بالطبع لا، إن اتباع هذه السياسة بشكل مستمر سيؤدي بالضرورة إلى مزيد من العجز والاقتراض؛ ما يزيد من أزمة المديونية التي تعاني منها معظم الدول.
وحتى في الدول التي تمتلك الفوائض النقدية فنجاح هذه السياسة له مقومات داخلية وخارجية وشروط تتعلق بهيكل الاقتصاد، ونظام سعر الصرف، والخطط التنموية الموجودة وغيرها. ويتأثر نجاح هذه السياسة كذلك بحجم الاقتصاد وقدرته على التوسع بالشكل الكافي لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الأيدي العاملة التي تدخل سوق العمل سنويًا، وقد بات من الواضح أن عدم توفر هذه المقومات، وما يرافق ذلك من اختلالات هيكلية خطيرة تعاني منها العديد من الدول النامية، يجعل من أي سياسة مالية أداة لا فائدة منها.
أما السياسة النقدية التوسعية فتنطوي على زيادة العرض النقدي؛ من خلال أدوات السياسة النقدية مثل: خفض سعر الفائدة الذي يشجع الناس على الاقتراض فتزيد كمية النقود ويزيد الطلب الاستهلاكي والاستثماري وبالتالي يرتفع الإنتاج والطلب على العمل، ولكن استخدام السياسة النقدية غالبًا ما ترافقه ضغوط تضخمية وارتفاع في الأسعار، لا سيما إذا كان الاقتصاد غير قادر على التوسع في الإنتاج لمواجهة زيادة الطلب الكلي.
وكما هو الحال في السياسة المالية فإن نجاح السياسة النقدية مرهون بمقومات تتعلق بحجم وهيكل الاقتصاد، ونظام سعر الصرف المتبع، والجهاز المصرفي المتطور، وعليه نستطيع القول إن أي سياسة حكومية مالية كانت أم نقدية قد يكتب لها النجاح في مرحلة معينة ولفترة محدودة، لكن لا يمكن أن تستمر أي من هاتين السياستين في مواجهة مشكلة البطالة، خاصة في ظل التزايد المستمر لأعداد من يدخلون إلى سوق العمل، ولا تستطيع أي دولة أن تزيد الإنفاق الحكومي أو تقلل الضرائب؛ أو تزيد من السيولة المحلية بشكل مستمر ودائم، وقد توفر السياسات الحكومية العديد من فرص العمل ولكنها ليست بالضرورة تناسب المستوى العلمي والمهني للعاطلين عن العمل.
دور ريادة الأعمال في مواجهة البطالة
في هذا المجال تبرز أهمية الدور غير المباشر للحكومة وأهمية المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة التي تساعد في توفير فرص عمل للراغبين في العمل، لا سيما رواد الأعمال؛ كي تخفف من حدة البطالة. وتعتبر هذه المشروعات -خاصة متناهية الصغر- الآلية الأنسب لتطبيق سياسة التوظيف الذاتي، وهي أيضًا ذات منافع للمشروعات الكبيرة؛ حيث تؤدي العديد من المهام التي تجنبها تلك المشروعات، فضلًا عن مساهمتها في تنشيط مستوى المنافسة التحفيزية بشكل يدفع للابتكار والإبداع وتقديم أفضل الخدمات للمستفيدين، ولا يجب أن نغفل دور هذه المشروعات في زيادة عدالة توزيع مكتسبات التنمية، والحفاظ على التوازن التجاري وميزان المدفوعات، وتعزيز الناتج المحلي الإجمالي. إن المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر هي الأساس الذي ترتكز عليه المشروعات الكبيرة؛ لأنها لا يمكن أن تنشأ إلا على جهود المشروعات الصغيرة، سواء في الإنتاج أو التسويق أو الحصول على الموارد (مدخلات الإنتاج).
لقد أثبتت التجارب الدولية أن السياسات المالية والنقدية في الدول النامية لا تستطيع أن تدفع بالاقتصاد لاستيعاب أعداد هائلة من القوى العاملة بشكل دائم، ولا يمكن الاعتماد عليها كحل جذري لمواجهة مشكلة البطالة. إن إستمرار الحكومة كموظف رئيسي يعني المزيد من البطالة المقنعة والترهل الإداري ومزيد من الأعباء المالية.
وقد صارت الحكومات غير قادرة على أداء هذا الدور التقليدي؛ لذا لا بد لفئة العاطلين عن العمل أن يسعوا ويوظفوا أنفسهم من خلال سياسة التوظيف الذاتي والمبادرات الفردية أو الجماعية وتبني الروح والأفكار الريادية، ولا بد للحكومة والقطاع الخاص مساعدة هؤلاء في توظيف أنفسهم؛ من خلال احتضانهم وتوفير الدعم المالي والفني لهم، وهنا نرى أن قطاع المشروعات الصغيرة ومتناهي الصغر هو الأرض الخصبة لتنفيذ سياسة ريادة الأعمال لكن بدعم مالي وفني من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية ذات العلاقة.
وفي مجال الحديث عن دور ريادة الأعمال والمبادرات الفردية في الحد من مشكلة البطالة نرى أنه من الضروري تأكيد أهمية قطاع المشروعات الصغيرة في الحد من البطالة عن طريق النقاط التالية:
- إن المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة ما هي إلا ترجمة عملية للأفكار الريادية والمبادرات الفردية والجماعية التي يتبناها رواد الأعمال. وإنشاء هذه المشاريع وإدارتها يخلّص فئة الشباب من فكرة ثقافة العيب الخاطئة أصلًا؛ كونه سيصبح مديرًا ومالكًا ومنتجًا في الوقت نفسه، كما أن هذه المشروعات هي المجال الأفضل للعمل المهني وتشجيعه.
- تعتبر هذه المشروعات أحد الحلول للبطالة الناتجة عن الخصخصة إذا ما تم استخدام جزء من عوائدها لتمكين العمالة، التي يتم التخلي عنها، من دخول هذا القطاع كمالك ومدير للمشروع أو كمنتج.
- إن تخلي الحكومة عن توفير المزيد من فرص العمل غير المنتجة (البطالة المقنعة) شيء جيد، ولكن لا بد أن ترافق هذه الخطوة إعادة توجيه بعض المخصصات المالية لتوجيه فئة من العاطلين عن العمل إلى مجالات منتجة بدلًا من دخول فئة البطالة المقنعة، إن إجمالي تكاليف توظيف عامل واحد في القطاع الحكومي ضمن البطالة المقنعة وبإنتاجية متدنية يكفي لتمويل إنشاء مشروع إنتاجي لهذا العامل، ولكن لا بد من ملاحظة أن هذه المدفوعات تدفع لمرة واحدة، بينما الوظيفة الحكومية تحتاج إلى دفعات مستمرة على شكل رواتب ومدفوعات أخرى.
- يؤدي التركيز على العاصمة والمدن الرئيسية في توزيع الموارد داخل كثير من الدول إلى تركز البنية التحتية في هذه المدن، الأمر الذي يسبب خللًا في توزيع المشروعات الإنتاجية بأحجامها المختلفة، وهذا بدوره يؤدي إلى خلل في توزيع الدخل ويزيد المناطق الفقيرة فقرًا. ، لكن دعم هذه المشروعات الإنتاجية يوفر المزيد من فرص العمل، ويزيد من العدالة في توزيع مكتسبات التنمية وتوزيع الدخل، ويعالج الخلل الناجم عن النمو غير المتوازن والخلل في توزيع الموارد المالية.
- إن الانجازات والمشاريع الكبيرة والهائلة تبدأ بفكرة صغيرة رائدة تتم ترجمتها على أرض الواقع إلى كيان قانوني ومشروع منتج؛ أي إلى مشروع إنتاجي أو خدمي بالحجم المناسب، هذا كله ينطوي على توفر المزيد من فرص العمل ويقلل البطالة؛ لذا فالحث على الريادة وتشجيعها يعني المزيد من الأفكار والمبادرات ومزيد من المشروعات والتشغيل.
- المشروعات الإنتاجية أو الخدمية متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة المولدة للدخل، والتي توفر عملًا مناسبًا وبجودة كبيرة ودخل أعلى للشباب الباحث عن عمل، هي الوسيلة المثلى التي تجعله أقل ميولًا إلى الوظيفة الحكومية ذات الأجر المحدود والتي تقيده بأوقات عمل طويلة وتخضعه لسيطرة مديره.
- يمكن إدراك دور هذه المشروعات في التعامل مع البطالة الدورية؛ من خلال مراجعة التطورات التي تبعت الأزمة المالية والاقتصادية العالمية مؤخرًا؛ حيث لوحظ أن معظم الوظائف التي فُقدت كانت في المشاريع الكبيرة، بينما كانت المشروعات الصغيرة والمتوسطة الأقل تأثرًا نسبيًا؛ وذلك بسبب مرونتها وقدرتها على التكيف.
- التخفيف من أزمة التشغيل والبطالة يحتاج إلى أفكار ومبادرات ورواد أعمال مبدعين، ومؤسسات تدعم هذه المبادرات والأفكار الريادية ماليًا وفنيًا، وإلى استراتيجية سكانية تنظم الدخول إلى سوق العمل، وإلى قطاع حكومي فاعل في الإنتاج والتوظيف، ودعم قطاع المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، وإلى بيئة أعمال وبيئة استثمارية تعزز دور القطاع الخاص.
اقرأ أيضًا من رواد الأعمال:
البطالة وريادة الأعمال.. آثار اقتصادية واجتماعية
الاستثمار الرياضي.. أهميته وكيف يتحقق؟
ما هو مفهوم البطالة؟ وما أسبابها؟


