كان عبد الله بن عثمان أبن أبي قحافة، والمعروف بأبي بكر الصديق رضي الله عنه من رؤساء قريش وعقلائها، وكان قد سمع من ورقة بن نوفل وغيره من أصحاب العلم بالكتب السماوية، أن نبيًا سوف يُبعث في جزيرة العرب. وفي إحدى رحلاته إلى اليمن لقي شيخًا عالمًا من الأزد، فحدثه ذلك الشيخ عن النبي المنتظر وعن علاماته.
ولما عاد أبو بكر إلى مكة، أسرع إليه سادة قريش، وأخبروه بأن يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي مرسل، وأخبروه أنه لولا مكانته فيهم لتصدوا له.
اجتمع أبو بكر رضي الله عنه مع محمد صلى الله عليه وسلم، ودار بينهما حوار انتهى بدعوته للإسلام فقبلها؛ ليكون أول من يُسلم من الرجال، وبعدها كان أكثر الصحابة قربًا ومحبةً وصحبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وله في هذا الصدد مواقف خالدة.
كان أبو بكر يحب النبي صلى الله عليه وسلم، أكثر من حبه لنفسه وولده وماله، وكان رفيقه في السراء والضراء وحين اشتداد المصاعب؛ إذ رافقه في رحلة الهجرة، دون أن يكترث بالمخاطر الشديدة التي قد تلحق به من قريش لو أدركوه هو وصاحبه.
وكان أبو بكر يخشى على الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان يفتديه بنفسه فيتقدم الطريق قبله، ويدخل الغار قبله؛ ليتلقى عنه أي مفاجأة أو مكروه قد يصادفهما. جاء في كتب السيرة أن أبا بكر رضي الله عنه لما هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أخذ يمشي ساعةً بين يدي رسول الله وساعةً خلفه، حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك.
فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر مكانك يا رسول الله حتى استكشف لك الغار فدخل واستبرأه، ثم دخلا الغار سويًا، وكان في الغار خرق فخشي أبو بكر أن يخرج منه شيء يؤذي رسول الله، فألقمه قدمه فجعلت الهوام يضربنه ويلسعنه وجعلت دموعه تنحدر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا.
ومن عجيب ما يروى عن أبي بكر الصديق قوله: كنا في الهجرة وأنا عطشان جدًا، فجئت بمذقة لبن فناولتها لرسول الله وقلت له: اشرب يا رسول الله، يقول أبو بكر: “فشرب النبي صلى الله عليه وسلم حتى ارتويت”، فيا سبحان الله! إلى أي حد بلغت هذه الصحبة وهذا الحب المنقطع النظير؟!
ويوم فتح مكة، أسلم أبو قحافة والد أبي بكر، وكان إسلامه متأخرًا جدًا، وكان قد عمي، فأخذه أبو بكر وذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه ويبايع النبي، فقال له النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: “يا أبا بكر هلَّا تركت الشيخ في بيته فذهبنا نحن إليه”، فقال أبو بكر: “لأنت أحق أن يؤتى إليك يا رسول الله”، وأسلم أبو قحافة فبكى أبو بكر الصديق، فقالوا له: هذا يوم فرحة، فأبوك أسلم ونجا من النار فما الذي يبكيك؟ فقال رضي الله عنه: لأني كنت أحب أن الذي بايع النبي الآن ليس أبي ولكن أبو طالب (عم النبي والذي مات كافرًا) لأن ذلك كان سيسعد النبي أكثر، فسبحان الله! فرحته لفرح العظيم صاحبه أكبر من فرحته لنفسه.
جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله، فبكى أبو بكر رضي الله عنه فقلت في نفسي ما يُبكى هذا الشيخ إن يكن الله خيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله؟ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد وكان أبو بكر أعلمنا فقال الرسول الكريم لصاحبه: “يا أبا بكر لا تبكِ إنَّ أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر.
أروي لكم هذه السطور المضيئة من مواقف الصاحب وصاحبه، متأملًا في ذلك المستوى الراقي، والصلة الصلبة لهذه الصداقة الحميمة؛ ما ولَّد تلك السعادة الغامرة التي غمرت هذين الصاحبين العظيمين. أقول ذلك، ونحن في زمن امتُهنت فيه الصحبة والصداقة، ولم تعد تشرق وتضيء بضياء الصدق والإخلاص والبذل والتضحية، بل تحولت لبريق خافت تلفه المصالح واللذات الدنيوية، فبقدر الفائدة والمصلحة تتوهج الصداقات، وبانعدامها تنعدم تلك الصدقات الزائفة، إننا لم نعد نلمس لمعنى الصحبة والصداقة ذلك الأثر والحلاوة والسعادة المرجوة في معنى الصحبة الصالحة والصداقة لأجل الحب الصادق في الله، والظفر بذلك الأخ المخلص ليجد الصديق في صديقه نفسًا صادقة يشكو لها ويتحدث معها، فيجد أن لصوته صدىً وأثرًا وتفاعلًا وحبًا صادقًا في نفس صديقه.
كم هي تلك القصص المليئة بمعنى الخيانة والغدر ونكران الجميل التي نسمعها، وبكل ألم ممن حولنا، بل ومن بعض أصدقائنا؛ وهو ما جرى عندما غابت عن صداقاتنا تلك المعاني الجميلة والأصول الحميدة.
إنها دعوة لنفسي، ولك أيها القارئ الكريم في العناية بالصداقة الصادقة، وبالذات لأهل الفضل والجميل الذين لم يتخلوا عنا في زمن انكسرت فيه أنفسنا، وضعفت فيه حيلنا وتنكَّر لجميلنا من حولنا.
إنها دعوة بألا نغتر بكثرة من حولنا في زمن الرخاء، فما أكثر أصحاب المصالح الرخيصة عند إقبال الدنيا علينا؟!، سأل رجل الإمام علي رضي الله عنه: “كم عدد أصدقائك؟ فأجاب لا أدري؛ لأن الدنيا مقبلة علي، والناس كلهم أصدقائي، وإنما أعرف ذلك إذا أدبرت عني، فخير الأصدقاء من أقبل إذا أدبر الزمان”.