وكأنني مع الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن- رحمه الله- في كفاحه المرير والمتواصل؛ لتحقيق حُلُمِ توحيد هذا الكيان العظيم الذي يحوي الحرمين الشريفين؛ قِبلة العالم الإسلامي، ومقصده على امتداد الزمان.
خضت معه تلك المعارك المائة التي خاضها، بداية من مركزه في وسط البلاد ومتجهًا جنوبًا وشمالًا وشرقًا وغربًا؛ حتى وكأنني أشاهد تلك الضربات والجروح الكثيرة في جسده؛ بسبب ذلك الكفاح الذي قاده وأنقذ الله به العباد والبلاد.
قاتل بشرف وإقدام وحكمة، وكان من طبعه العفو عند المقدرة، وأثبت إمكانية التوحيد، وعامَلَ الرعية بالعدل والإنصاف؛ وذلك من منطلقه في توظيف السلطة نحو هدف عظيم؛ وهو جمْع الكلمة ووحدة الصف؛ إذ اعتبر أنَّ ثروة الإنسان القائد تكمن في سلوكه وفي عدله وحرصه على أمته، وليست في تكديس المال، مسجِّلًا في التاريخ الحديث للأمة أنَّه آخر قادتها التاريخيين الذين كان همهم توحيد البلاد وإنقاذها من فتن التمزُّق، والتفرُّق، ومكائد الأعداء من الداخل والخارج.
لقد عظم في نفسي كثيرًا هذا القائد العظيم، بعدما عرفت من بعض جلسائه أنَّه عندما لقي ربه، لم يكن معه سوى ثلاثمائة جنيه ذهبًا، وأنه لم يورَّث أحدًا من أبنائه وزوجاته شيئًا، وأنَّ ملابسه بيعت في السوق لصالح بيت مال المسلمين.
وكم أكبرتُه عندما قرأت إحدى وصاياه لولي عهده وكبير أبنائه؛ الملك سعود- طيَّب الله ثراه- والتي جاء فيها: “تفهّم أننا والناس جميعًا، ما نُعِزّ أحدًا ولا نُذِلّ أحدًا ، وإنَّما المُعِز والمُذِل هو الله سبحانه وتعالى، من التجأ إليه نجا، ومن اغتر بغيره وقع وهلك، موقفك اليوم غير موقفك بالأمس. ينبغي أن تعقد نيتك على ثلاثة أمور: أولًا : نية صالحة وعزْم على أن تكون حياتك وأن يكون ديدنك إعلاء كلمة التوحيد ونصْرة دين الله، وأن تتخذ لنفسك أوقاتًا خاصة لعبادة الله، والتضرع بين يديه في أوقات فراغك، فعُد إلى الله في الرخاء تجده في الشدة. واحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون ذلك كله على برهان وبصيرة بالأمر وصِدْق في العزيمة، ولا يصح مع الله- سبحانه وتعالى- إلا الصدق والعمل الخفي الذي بين المرء وربه”.
وتضمنت الوصية: ” ثانيًا: عليك أن تجدَّ وتجتهد في النظر في شؤون الذين سيوليك الله أمرهم بالنصح سرًا وعلانية، والعدل في المحِب والمبغِض، وتحكيم الشريعة في الدقيق والجليل، والقيام بخدمتها باطنًا وظاهرًا، وألا تأخذك في الله لومة لائم. ثالثا: انظر في أمر المسلمين عامة، وفي أمر أسرتك خاصة، اجعل كبيرهم والدًا، ومتوسَّطهم أخًا، وصغيرهم ولدًا.
وتابعت الوصية: “وهِنْ نفسك لرضاهم، وامحُ ذلهم، وأقِل عثرتهم، وانْصح لهم، واقضِ لوازمهم بقدر إمكانك، فإذا فهمتَ وصيتي هذه ولازمتَ الصدق والإخلاص في العمل فأبشر بالخير. أُوصيك بعلماء المسلمين خيرًا، احرص على توقيرهم ومجالستهم وأخْذ نصيحتهم، واحرص على تعليم العِلْم ومعرفة هذه العقيدة، احفظ الله يحفظك، هذه مقدمة نصيحتي إليك، والباقي يصلك إن شاء الله في غير هذا”.
لقد عشت كل تلك الأحداث العظيمة، وقضيت ذلك الوقت الحافل بالإثارة، والكفاح، والصبر، وحسن القيادة مع الملك عبد العزيز- طيَّب الله ثراه- فعلى الرغم من أن الفارق الزمني بيننا يزيد عن مائة عام، إلا أنني عشت تلك الأحداث بروحي، وعقلي، وخيالي؛ حيث سَرَتْ تلك المعاني والأحداث في دمي وكأنني عاصرتها؛ لذا أحببت أن أرويها لكم قرائي الكرام، فربما واست مكلومًا، وخفَّفت عن جريح، وأخذت بيد منكسر، وأعادت الروح لحائر لهفان.
في ذكرى اليوم الوطني للمملكة، لا نملك سوى الفخر بهذا الموروث العظيم، وهذا الكيان الراسخ الذي ورَّثه وصنعه لنا رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه، فضحوا بكل نفيس في سبيل هذه الغاية النبيلة؛ وهي كيان قوي وراسخ وموحد يحوي أطهر بقاع الأرض، تنصهر فيه كل القبائل والدويلات التي كانت متناحرة قبل التوحيد.
أتذكر تلك الفرحة الغامرة، حينما قام الملك عبد العزيز- رحمه الله- أصدر مرسومًا ملكيًا في 17 جمادى الأولى 1351 ه، برقم 2716، بتغيير اسم “مملكة الحجاز ونجد” إلى “المملكة العربية السعودية”، وقد دوَّن التاريخ العربي والإسلامي هذا التاريخ، والذكرى الأولى لتأسيس المملكة، في يوم الخميس 23 سبتمبر 1932 م.
وفي هذه السنة- التي نتذكر فيها تلك التضحيات والجهود التي بُذلت- يستشعر كلٌ منا واجبه تجاه بلاد الحرمين الشريفين، بأن يبذل ويقدم ويعمل ويحمي هذا الكيان من المتربصين به من الداخل والخارج، وبكل ما يستطيع من قوة وجهد، ناويًا جعل هذا الصرح قبلة علمية وحضارية وتقنية وإنسانية، مثلما أنه القبلة الدينية للمسلمين في العالم.