يطرح بيونغ تشول هان؛ الفيلسوف والمنظر الاجتماعي في كتابه «مجتمع الشفافية»، قضية لافتة وعلى قدر كبير من الغرابة وهي حتمية المسافة الاجتماعية، لم يكن الرجل، كما يعلم كل من تأمل كتابه بعمق وروية، منصرفًا إلى بحث وتأويل قضية المسافة الاجتماعية بشكل حصري في الكتاب سالف الذكر، وإنما هي مقولة قاده تحليله لتحولات المجتمع المعاصر إلى التحدث عنها والتطرق إليها.
صحيح أنك قد تجد تجليًا واضحًا لهذه المسافة الاجتماعية _ إيجابًا وسلبًا_ لدى زيجمونت باومان خاصة في كتابيه «الحب السائل» و«الحياة السائلة»، لكن الوجهة التحليلية لبيونغ تشول هان كانت واضحة منذ البداية: الحفاظ على المسافة الاجتماعية هي الطريق الملكي لنجاح كل علاقتنا الشخصية من الصداقة إلى الحب.
اقرأ أيضًا:كيفية التغلب على الخوف؟
الغموض جاذبية
ثمة قضية احتلت جزءًا كبيرًا من تفكير فلاسفة ومفكرين معتبرين من أمثال فالتر بنيامين ورولان بارت؛ وهي محاولة إقامة الفوارق بين القداسة والحضور؛ فالحضور الدائم للصورة _أيًا كانت ماهية هذه الصورة_ ينفي عنها جلالها وطابعها المقدس.
ومن هنا كان بيونغ تشول هان يقول، مستلهمًا رولان بارت؛ إن طغيان المرئي نوع من الفحش، ومن ثم يجب عليك أن تكون محتجبًا، بعيدًا عن الأنظار بحكمة ومهارة حتى تتمتع بالحضور الحقيقي والكثيف.
وإذا نقلنا الأمر إلى ساحة العلاقات الحُبية (علاقات الحب أعني) سنجد بيونغ تشول هان يتحدث عن المسافة الاجتماعية قائلًا:
«فالحب دون وجود ما يخفيه عن البصر لا يوجد إلا في المواد الإباحية، ومن دون وجود فجوة في المعرفة يتحول التفكير إلى عملية حسابية».
ويوضح عالم الاجتماع الألماني الرائد جورج زيمل الفكرة على نحو جليّ فيقول:
«حتى الأشخاص الأقرب إلينا، لكي يظل إغراؤهم مستمرًا، يجب أن يظلوا متمتعين بجانب أو أكثر من الغموض والالتباس».
اقرأ أيضًا: كيف تُصقِل مسارك الوظيفي في ظل التحول الرقمي؟
مجتمع الاستعراض وطغيان المرئي
قديمًا كتب جي ديبور «مجتمع الاستعراض»، وبعيدًا عن الفكرة العامة التي ينطوي عليها الكتاب، فإن ما يمكن التقاطه منه ويتناسب مع تحليلنا الراهن لقضية المسافة الاجتماعية هو أن كل شيء، في مجتمع الاستعراض ذاك، أمسى خاضعًا لمنطق المشهد وآلية الرؤية.
كل شيء هنا، وعلى رأس هذه الأشياء نحن البشر، مجبرون على أن نكون مرئيين، أن نكون تحت النظر والملاحظة.
وهي تلك الفكرة التي سيتحدث عنها جيل ليبوفتسكي فيما بعد في كتابه «شاشة العامة» تحت عنوان: «الشاشة الكونية»، سوى أن ما نبغي الإشارة إليه هنا أن مجتمع الاستعراض، حسب جي ديبور أو مجتمع الشفافية حسب تحديد بيونغ تشول هان؛ قضى على كل مسافة، ووأد بشكل ممنهج الخصوصية الفردية، وساقنا إلى مكبات جماعية تشبه مقالب القمامة؛ حيث لا ميزة لأحد ولا خصوصية.
ومن ثم يمكن القول إن مجتمع الاستعراض، وبما يتوفر لديه من أدوات مراقبة ووسائط تقنية جمة، هو وأد ومحو منهجي للمسافة الاجتماعية، والتعامل مع الجميع بمنطق الجملة _تلك هي مأساة العقل الأداتي على أي حال_ دون أن يأخذ في اعتباره أي فروقات فردية.
اقرأ أيضًا: هل أنا على حق؟.. تقييم دائم للذات
الطريق لصحة العلاقات
كان ابن الجوزي يقول في كتابه «صيد الخاطر»: «وخير الأمور أوساطها من دون قرب يُمل ولا بعد يُنسي» وليس ثمة تعبير عن المسافة الاجتماعية أبلغ من هذا القول المقتضب والبليغ.
فحين تتأمل عنف التواصل مع الآخرين وكثافة الحديث والرؤية فستجد أنها السبب الأساسي الذي يقود إلى أشخاص منهكين روحيًا وجسديًا، وغير قادرين على القيام بما عليهم من واجبات لصديق أو حبيب.
وليس هذا بأمر غريب على هذه المجتمعات التي لا يتسم أشخاصها بشيء أكثر من اتصافهم بالتشتت والإرهاق، وغياب الوجهة وانعدام الهدف.
يقول بيونغ تشول هان:
«من الواضح أن الروح البشرية تحتاج إلى مجالات حيث يكون بمقدورها أن توجد في مكان يقيها من الأنظار المتلصصة للآخرين. يتطلب الأمر نوعًا من الانغلاق أو اللانفاذية؛ حيث من الممكن أن يؤدي الضوء الشديد إلى الاحتراق، ويتسبب في نوع معين من الإرهاق الروحي».
لكي نكون اجتماعيين حقًا ولكي تدوم علاقتنا نحن بني البشر على نحو صحي وناضج؛ فمن الواجب أن نحافظ على المسافة الاجتماعية فيما بيننا.
لا يعني هذا أن نكون أجلافًا أو منطوين عن العالم والآخرين، وإنما أن نكون في مأمن من نظرات الآخرين وتطفلاتهم، أن تكون أشياؤنا المقدسة والخصوصية جدًا بعيدًا عن المتناول تمامًا، ففي النهاية المسافات أمان، ولا أحد يفهمك كنفسك، تلك هي أخص تعاليم المسافة الاجتماعية.
اقرأ أيضًا:
الهواتف الذكية.. اضطرابات نفسية تهدد نشاطك
محاربة الشعور بالفشل.. الإدراك الموضوعي للذات