يحفل التراث النظري بجدل كبير حول مدى جدوى وأهمية المسؤولية الطوعية للشركات، وأيهما الأكثر نفعًا وجدوى: التطوع أم الإلزام؟ أي هل يجب إلزام الشركات بلعب دور إيجابي على المسرح الاجتماعي أم ينبغي ترك الأمر للفعل الطوعي؟
وليس هناك بطبيعة الحال جواب قاطع عن تساؤل حديّ كهذا، فكل طرف من أطراف الصراع النظري ذاك لديه ما يدعم ويؤيد وجهة نظره.
لكن انشغالنا الراهن أبعد ما يكون عن الانتصار لطرف على حساب طرف آخر، أو حشد الأدلة والتحليلات النظرية التي تؤيد وجهة نظر قوم على حساب آخرين، فلن يفعل هذا في واقع الأمر شيئًا، ولن يعدو كونه محاولة مكررة معادة.
لذلك فإن مقاربتنا لفكرة المسؤولية الطوعية للشركات ستكون عبر صنع ضفيرة نظرية بينها وبين نظرية الاختيار العقلاني. وهو ذاك الذي يحاول «رواد الأعمال» بيانه على النحو التالي..
اقرأ أيضًا: المسؤولية الاجتماعية في البنوك.. بناء ثقة المستهلكين
نظرية الخيار العقلاني
تزعم نظرية الخيار العقلاني أن كل فعل يأتيه أي فرد أو مؤسسة في المجتمع إنما الهدف منه هو تحقيق مصلحة شخصية أو ذاتية لصاحبها، لكن الاعتراض الأكبر الذي دائمًا ما يتم به الدفع في وجه هذه النظرية هو الأفعال التطوعية أو الخيرية أو الأخلاقية _لنتذكر أننا هنا نؤسس نظريًا لفكرة المسؤولية الطوعية للشركات_ لا هدف لها إلا خدمة الاخرين ولا يرجو المرء من ورائها مصلحة ذاتية.
لكن هذا الأمر مردود عليه، فكل فعل للخير _التصدق مثلًا_ هدفه تحصيل الثواب، وحتى إذا كنت تفعل الخير من أجل الخير ولا ترجو ثوابًا عليه، فإن الشعور الجيد الذي تحصل عليه بعد قيامك بهذا الصنيع هو المصلحة التي تحصل عليها.
وبما أن التأسيس النظري لفكرة المسؤولية الطوعية للشركات وليس المرافعة عن نظرية الاختيار العقلاني هو اهتمامنا أو انشغالنا الراهن، فلن نقدم مرافعات أكثر من هذا عن تلك النظرية.
لكن المسؤولية الطوعية للشركات، منظورًا إليها من باب نظرية الخيار العقلاني، تُعتبر محض منطق؛ أي أن الالتزام الطوعي بالمسؤولية الاجتماعية ليس نابعًا من مجرد قيام الشركة ببعض المعروف أو فعل الخير، وإنما لأن «الخيارات العقلانية» حتمت هذا وأوجبته.
اقرأ أيضًا: كيف تجعل مشروعك صديقًا للبيئة؟
قوة القناعات
يُهزم القانون أمام القناعة، وتلك مسألة لا فصال فيها؛ لذا فإن المسؤولية الطوعية للشركات أكثر جدوى ونفعًا من مجرد إلزام الشركات بها.
فالمؤكد أنه من الممكن أن يتم التفلت من الالتزام بالمسؤولية الاجتماعية إذا كان الأمر محض جبر أو إلزام، أما إذا كان قيام الشركة بلعب دور اجتماعي إيجابي في المجتمع الذي تعمل فيه نابعًا عن قناعة أصحابها فلا شك أنها لن تتخلى عن دورها فحسب، وإنما ستقوم به على النحو الأمثل.
غير أن هذا يضعنا أمام سؤال معضل آخر مفاده: كيف نجعل الالتزام بالمسؤولية الاجتماعية طوعيًا؟ أي ما السبيل إلى المسؤولية الطوعية للشركات؟ ليس عسيرًا أن نقنع الشركات بأهمية المسؤولية الاجتماعية، وهي منافع جمة، وأسهبنا في بسطها في غير ما مقال.
ومن هذه الزاوية يمكن اتخاذ منافع ومكاسب المسؤولية للشركات كمدخل للمسؤولية الطوعية للشركات؛ أي لجعل هذا الالتزام طوعيًا.
اقرأ أيضًا: أساسيات المسؤولية الاجتماعية
المنحى الأخلاقي
حتى وإن كانت المسؤولية الاجتماعية الطوعية منها والإلزامية غير مجدية للشركات _لنفترض هذا جدلًا_ فهل لا يتوجب على الشركات اللعب على المسرح الاجتماعي؟ هل يجوز لها أن تدير للعالم ظهرها وأن تنصرف إلى الربح ومراكمة الثروة؟
مرة أخرى ثمة إجابات مختلفة عن سؤال كهذا، فواحد مثل “ميلتون فريدمان” لن يتوانى لحظة في الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب، فبحسب رأيه ليس للشركات من هدف سوى مراكمة الربح، وتعظيم مكاسب أصحاب المصلحة.
غير أن هذا تفكير حسير قصير المدى، فكيف يمكن للشركات أن تحقق مكاسب وأن تجني منافع في مجتمع مهترئ ضعيف وهش؟ كيف يمكن للناس أن يشتروا سلعًا لا يمتلكون ثمنها؟!
ومن هنا يمسي أخلاقيًا قبل أن يكون طوعيًا القيام بدور اجتماعي إيجابي في المجتمع، خاصة أن واحدة من أبرز سمات هذا العصر هو ما يمكن تسميته «عولمة الكوارث»؛ فمهما كانت انتماءاتنا الطبقية ومواقعنا الحغرافية فنحن في الكارثة سواء، واعتبر في ذلك مثلًا بجائحة كورونا التي طالت سكان العالم المعمور برمته دون أدنى تفرقة.
اقرأ أيضًا:
تطبيق المسؤولية الاجتماعية وتحدياته
اقتصاد النظم البيئية.. جسر بين العلوم والتخصصات
أنواع المسؤولية الاجتماعية.. السعي الطوعي للتنمية