حملت العولمة في ظاهرها الكثير من الآمال في رؤية الإنجازات العملية والتطبيقات التكنولوجية تمتد إلى أقاصي الأرض. لتتيح لملايين البشر فرصة الاستفادة من خدماتها. لتحقيق وضع أفضل في العمل. وإمكانية التمتع بحق الانتفاع من فوائدها لترقية حياتهم وتطور سبل معيشتهم.
وارتبطت جهود المساهمة في التقدم الحضاري بالمجتمعات الغربية بجملة من أرقى المبادئ الإنسانية المعلنة، ومنها: الديمقراطية، واحترام الحريات الفردية والجماعية، وإقرار التعددية، وترسيخ حقوق الإنسان، واعتماد التنمية الاقتصادية المستدامة.
ثم ما لبثت أن تبلورت الأوضاع العالمية على نحو غير مفضل متأثرة بحرية لا محدودة وممارسات بغير ضوابط أخلاقية، وبعلاقات تستند إلى قيم واهية ليست ذات معاني حقيقية؛ لأنها عديمة التوجيه.
وكانت النتيجة استقطاب سافر لمصادر القوة، واحتكار واسع لمنابع الثروة، يقابله تفقير واسع النطاق للدول النامية، وإضعاف فاضح للدول المتأخرة التي باتت تتحمل مسؤولية مواجهة مخاطر اقتصادية وبيئية تهدد حياة البشر ووجود الأمم لم تكن سببًا فيها، ولا دخل لها بنشوئها .
الثابت والمؤكد أن تطور حركة الحريات الحديثة لم يصاحبها رقي واضح في جهود تعزيز علاقات التضامن الإنساني بالقدر الكافي والمطلوب الذي يحفظ للشعوب سلامتها واستقرارها، بقدر ما طفحت على السطح أوهام مستحدثة تفرط في تقدير الفرد على حساب الخير العام.
المسار الإنمائي المستدام
يوجد خطاب جديد يحمل معالم تأسيس مسار إنمائي مستدام. يبدو لائقًا بطبيعة عمل ومصالح المؤسسات. ويلبي أهداف المجتمع في آن واحد. إنه يتضمن اختيارًا يتعلق بالمسؤولية الموسعة للمؤسسات. إنها المسؤولية الاجتماعية التي تستند إلى البيان المحاسبي والاقتصادي والمالي. إلى جانب البيان الاجتماعي والبيئي للمؤسسة.
إن هذا البيان الجامع يشكل في جوهره التزامًا محركًا للقوة الداخلية بالمؤسسة. في مجال الاقتصاد. وإدارة الأعمال. وهو المجال الذي تعاظم تأثيره في مختلف أوجه النشاط للدولة.
لقد أتاحت التحولات التقنية والتطورات الاقتصادية استحداث منافع كثيرة في عالم الأعمال. يستند معظمها إلى ثقافة جديدة. أصبحت ضرورية وعمادها وضع معالجات للاختلالات الوظيفية على مستوى القطاعات، وصولًا إلى تأسيس مجتمع أكثر عدلًا وأشد تماسكًا.
وهو ما استفز التأمل. وأنعش التفكير في ترسيخ هذا المفهوم كوثيقة تتضمن اقتراحًا. ودعوة للعمل. في إطار الوعي بأهمية الأبعاد البنيوية الثلاثة التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في كل مؤسسة: البعد الاقتصادي. البعد المجتمعي. والبعد البيئي. حتى يعيش المجتمع تحولًا حقيقيًا مبنيًا على وفاق وقناعة والتزام.
كما أن هذه الأبعاد يمكن أن تفقد معناها. إذا لم توجهها السياسات إلى خدمة الإنسان. ومنه يمكن التأكيد أن فرضية مهمة. وهي أن الأهداف الداخلية والخارجية. سواء الاقتصادية أم الاجتماعية أم البيئية. واستراتيجيات تنمية المؤسسة. وتطوير نشاطاتها التجارية والحيوية كلها. يجب أن تقيم على أساس شدة تأثيرها في تنمية الأشخاص المستهدفين. أي تحقيق هدف وضع الإنسان في قلب الاقتصاد.
المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات
إن وضع مبدأ المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات كتصور ملائم لمعالجة مواضيع الساعة، والتعامل مع القضايا الراهنة، يستند في تفعيله إلى مبادئ عالمية تهدف إلى بناء اقتصاد ثابت ومتين من خلال نظرة شاملة إلى المؤسسة من حيث أهدافها ومسؤولياتها.
كما ترتبط المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات بمقدار تلك المسائل الحيوية المتعلقة بالإنسان التي تهدف لتوضيح طبيعة مسؤولية المؤسسات على مستوى نوعين من علاقات الأنثروبولوجيا الرئيسة، علاقات الإنسان مع القوى الطبيعية، وعلاقاته مع مختلف طوائف الناس في المجتمع.
إذ أن عناصر المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة لا تكمن فقط في الأرض، والربح، والناس، وإنما أيضًا في الجانب الروحي الذي ينفخ فيها من فيض الإيمان لحياة جديدة روح الرجاء والثقة، ويدرك ذلك كل من تغذّوا بالفكر الاجتماعي الدائم التطور، أنه يجب أن يؤسس الاقتصاد القائم على العلاقات بين الأشخاص على مبادئ أخلاقية وأدبية، وأن يجد غايته في الميزة الفريدة لطبيعة كل شخص.
كذلك فإن الاقتصاد الذي يعتمد فقط على الإنتاج والتجارة وإتاحة الثروة، هو شريك مباشر في اتخاذ القرار المؤسس على التصرفات الإنسانية، والتنبه الأدبي واجب للسهر على دعوة الإنسان وعلى الوسائل الواجب استعمالها لتحقيق هذه الدعوة.
كما أن مفهوم النشاط الاقتصادي القائم على مجموعة أعمال تهدف إلى تلبية معظم الحاجات الإنسانية برغم محدودية الموارد، هو نشاط يجب أن يمارسه أشخاص يوجهوا جهودهم نحو خدمة الإنسان؛ لأن الإنسان هو مؤسس كل حياة اجتماعية ـ اقتصادية، وهو محورها وكل غايتها.
في حين أن الاعتقاد السائد أن اقتصاد المؤسسات تلهمها وتحركها خدمة الإنسان كغاية في حد ذاتها، هي أسرع في إيجاد القيمة اقتصاديًا واجتماعيًا من اقتصاد ومؤسسات تحركها وتديرها فقط المصالح المالية البحتة المحصورة بعدد قليل من الناس، وتعد الإنسان أداة لخدمة مصالحها الفردية والخاصة.
الموقف الأخلاقي
كذلك الموقف الأخلاقي المتضمن في الدور الأساسي لمجلس إدارة الأعمال ليس كافيًا لتوجيه المسؤولين وحماية المرؤوسين الأقل مكانة وظيفية مهما كانت الطبيعة الجوهرية للقواعد والقوانين. كما لا تولد الثقافة الأخلاقية والموقف الأخلاقي في مؤسسة إلا من خلال التزام مسؤوليها ومثابرتهم في تقرير وتوجيه المؤسسة نحو قيم أخلاقية ومبادئ نوعية، تسهم في مساعدة المنظمات في المحافظة على السلوك الأخلاقي.
إن المستهلكين الذين يتمتعون بقدر كبير من القوة الشرائية يستطيعون التأثير في الواقع الاقتصادي من خلال اختيارهم الحر لأسلوب الموازنة بين الاستهلاك والادخار، وتبرز هنا مسألة توجيه القوة الشرائية نحو دعم متطلبات العدالة والتضامن وتعزيز المسؤوليات الاجتماعية المحددة.
كما تتيح هذه المسؤولية للمستهلكين إمكانية تفضيل منتجات بعض المؤسسات الاقتصادية على غيرها بفضل اتساع نطاق تبادل المعلومات حول فرص ومجالات تصريف المنتجات، وذلك حين يأخذ المستهلكون في اعتبارهم أولًا وجود ظروف عمل صحيحة في المؤسسات، ودرجة الحماية التي توفرها للبيئة الطبيعية المحيطة، وليس فقط أسعار المنتجات ونوعيتها، هذه العلاقة الجدلية بين الإنسان والمؤسسات تحسمها طبيعة المنفعة المتبادلة بين الطرفين في إطار الالتزام بالمسؤولية الاجتماعية.
جوهر مفهوم المؤسسة
كذلك وبتأمل الخطوط العريضة لمضمون المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات يتضح هذا المفهوم بتعبيرات أخلاقية وقانونية وبجملة مبادئ المحدثة للتوقع والوقاية، وليس مفهوم المؤسسة بسيطًا، فالمؤسسة واقع معقد ومسرح لنزاعات مهمة ومتعددة تتجاوز مسألة ملكية وسائل الإنتاج؛ لأن الحديث يتعلق بالازدواجية بين التحديد القانوني للمؤسسة وبين طبيعة نشاطها في الحياة اليومية.
فالمؤسسة قانونيًا هي شركة رساميل، في حين أنها في حقيقتها الاجتماعية شركة أشخاص يتحدون لتنفيذ بعض المنتجات، لذا يحتاج تحديد مؤسسة إلى ما يمكن أن يشمل كل تعقيدات نشاطها، فإذا أخذنا بالمفهوم إلى عالم الأشياء تكون المؤسسة شركة رساميل تستغل الموارد الطبيعية وتحوّلها لسلع، وعندما نتكلم عنها كتجمع أشخاص نجدها ستتشكل من جماعة لا علاقة بين أعضائها.
كما يمكننا في الواقع القول إن إن التعقيد موجود في التفاعل سواء بين مجالات العلاقة مع الأشياء، والعلاقة بين الأشخاص، لذا فالثابت أن المؤسسة بالتأكيد هي مجموعة علاقات بين الأشخاص تتفاعل فيما بينها بواسطة الأشياء فيها بطرق مختلفة لإنتاج الخيرات من السلع، والخدمات التي تخضع لاحقًا للتبادل في الأسواق.
في نهاية المطاف، يمكننا أن ندرك درجة تعقيد عمل المؤسسة عندما يتعلق الأمر بتحديد المشاركة في الأسهم، وارتباطها بعملية اتخاذ القرار، واقتسام القيمة المضافة، وقضايا العدالة، والإشارة إلى واجب توخي العدالة في المؤسسة يعني الاعتراف بكفاءة كل شخص عامل فيها وضمان كرامته من خلال تقدير ما يقدمه للمجموعة.