من حيث الأصل يمكن النظر إلى المسؤولية الاجتماعية للشركات على أنها استجابة لتحديات تواجه العالم برمته، ومحاولة للخروج من المدلهمات التي تواجه كوكب الأرض، لكنها _وهنا يكمن جوهر ما نريد بيانه_ تفعل ذلك من الداخل إلى الخارج وليس العكس.
بمعنى أن الشركات التي تعي حدود دورها الاجتماعي جيدًا هي تلك التي تبدأ بمجتمعها المحلي والمحيط أولًا، فلو قامت كل شركة موجودة في أي بقعة من بقاع الأرض بالدور المنوط بها والملقى على عاتقها لتمكنا _جميعًا_ من حل هذه الأزمات التي تهدد وجودنا وبقاءنا على الكوكب.
الأمر هنا _أي فكرة الانطلاق من الداخل إلى الخارج ومن الجزء إلى الكل_ أشبه ما يكون باستراتيجية النماذج المضيئة التي اُتبعت في الهند خلال وقت مضى؛ حيث كان يُعمد إلى قرية نائية وصغيرة والعمل على تطويرها وتنويرها _بالمعنى الكامل والكثيف الذي تحمله كلمة تنوير_ ثم تركها تنور هي نفسها محيطها وتعمل على تنميته.
اقرأ أيضًا: المسؤولية الطوعية للشركات.. أي دور للخيارات العقلانية؟
المسؤولية الاجتماعية ونظرية الواجب
لكن يبدو موضوع المسؤولية الاجتماعية ذاك غريبًا أو طرحًا غير محبذ في عصر الفردانية واشتغال كل فرد منا بنفسه، أو على الأقل هكذا تنصحه منظومة القيم الرأسمالية.
وحين نطالع كتاب «أفول الواجب» لمؤلفه جيل ليبوفتسكي يتبين لنا؛ من خلال تحليل عالم الاجتماع، إلى أي مدى غلبت الأنانية تصورات الأفراد في مجتمعات اليوم. هنا يظهر أن المسؤولية الاجتماعية طرح غير مألوف.
فطالما أن كل واحد منا لا يشغله سوى نفسه فما همنا بالمجتمع؟ وما علاقتنا بتنميته وإصلاحه وتطويره؟ لكن طرحًا كهذا ينسى أن المجتمع ليس أكثر من مجموع أفراده.
فإذا انشغل كل واحد منا بنفسه فسوف يمسي، وبشكل تلقائي، ذئبًا للآخرين؛ فطالما أنك تقدم مصلحتك على حساب الآخرين فسترى في الآخرين أعداءً لك.
لكن ذلك _وبعيدًا عن تقسيمات وأطروحات نظرية الواجب_ ليس أكثر من تأمل باهت وتنظير قصير النظر؛ فكيف تعيش في مجتمع الجميع فيه يحارب الجميع؟! بيد أننا لو جنّدنا الكل لخدمة الكل _وهذا هو في الواقع جوهر ما تنادي به المسؤولية الاجتماعية_ لعمّ الخير على الجميع.
اقرأ أيضًا: المسؤولية الاجتماعية في البنوك.. بناء ثقة المستهلكين
أي واجب؟
لسنا نريد هنا أن ننصب محاكمة لميلتون فريدمان؛ المؤلف والمفكر الاقتصادي المعروف، ولأتباعه، ولا أن نبين حدود تأملاته، وإنما أن نسير معه حتى النهاية، أن نفكر معه ضده.
فأحد الأطروحات الأساسية التي ساقها الرجل ونظّر لها كثيرًا هي أن الحرية مرتهنة بالاستهلاك، لكنه نسى أن أولئك الذين لا يملكون ما ينفقون لن يكونوا أحرارًا وفق منطقه.
سوى أن الرجل ما فتئ يؤكد أنه ليس على الشركة من واجب سوى جلب أكبر قدر من المنافع لأصحاب المصلحة، وإن كنا لا نعارض هذا بطبيعة الحال _فلا بد للشركة والمستثمرين فيها أن تحقق أرباحًا_ ولكننا نحاول أن نلفت النظر إلى أنه ما من خير يُرتجى إذا تعاظمت مكاسب أصحاب المصلحة على حساب الكل.
هذا فضلًا عن أن الشركة، التي لا يشغلها حسب ميلتون فريدمان سوى الربح، لن تجد لسلعها ومنتجاتها، عما قريب، مشترين؛ فما جدوى الإنتاج في مجتمع لا يقوى على الشراء؟
اقرأ أيضًا: كيف تجعل مشروعك صديقًا للبيئة؟
المسؤولية الوطنية
لكن إذا كانت المسؤولية تنطلق من الداخل إلى الخارج ومن الجزء إلى الكل، كما بيّننا ذلك أعلاه، فهذا معناه أنها تعمل على خدمة مجتمعها المحيط، ووطنها الذي تعمل فيه، قبل أن تعمل على خدمة العالم ككل، ومن هنا تستبين المسؤولية الوطنية للشركات.
وإنما نعني بمواطنة الشركات قيام الشركة ببناء هياكل داخلية وخارجية تُكافئ على السلوك الحسن وتعاقب على السلوك المشين؛ أي، بكلام آخر، قيام الشركة بإنشاء مدونة سلوك للمواطنين.
سوى أن ما تسعى الشركة إليه ليس مقصورًا على المشاركة في بعض الأعمال التطوعية، وإنما أن تعمل، جاهدة، على توفير الازدهار الاقتصادي في المجتمع الذي تعمل فيه.
وهذا الازدهار الاقتصادي لا يتأتي عبر طرق اقتصادية وتجارية مباشرة فحسب، وإنما عبر مسارات غير اقتصادية وغير مباشرة أيضًا، ومن هنا كان تشديد الشركات المسؤولة اجتماعيًا وبيئيًا على بعض السلوكيات وتحذيرها من أخرى.
اقرأ أيضًا:
تطبيق المسؤولية الاجتماعية وتحدياته
اقتصاد النظم البيئية.. جسر بين العلوم والتخصصات