خمسة وعشرون جنيهًا كان أول راتب شهري تقاضيته في حياتي، إلى جانب مائة جنيه كحد أقصى مقابل التدريس لطلاب كلية الهندسة بجامعة المنصورة في الثمانينات الميلادية، خلال رحلة طويلة لم تخلُ من العقبات التي تم تجاوزها والوصول بإرادة الله ومشيئته إلى مرحلة جَنْي الثمار.
“رحلة بروفيسور مصري من المنصورة إلى واشنطن”؛ كان هذا هو العنوان الذي اختاره الشباب السعودي بعد مشاهدتهم صور تكريمي من الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الماليزي ضمن أفضل علماء الدول الإسلامية، واختياري ضمن أبرز مائة شخصية عالمية مؤثرة بريادة الأعمال والابتكار.
حينها طلبوا مني سرد رحلتي المتواضعة في فعالية ابتكروها، باسم “فطور الناجحين”؛ حيث يتم استضافة شخص ناجح، يحكي قصته، ويُلهمهم، ويجيب على أسئلة شباب، معظمهم طلاب جامعيون.
أخبرتهم أن الله تعالى سخر لي ثلاثة مخلوقات، كانوا سببًا في جلوسي معهم في ذلك اليوم: الأول إنسان، والثاني حشرة، والثالث ليس بإنسان أو حشرة!!.
المخلوق الأول هو أمي -حفظها الله- وإن كان الشاعر الكبير حافظ إبراهيم قد قال: الأم مدرسة إذا أعــددتها.. أعـددت شعبًا طيبَ الأعراقِ، فإني أقول: أمي ليست مدرسة، بل جامعة تعلمتُ فيها ليس الآداب والحقوق فقط، بل أيضًا الطب والهندسة؛ وهو ما يتطلب بيانه كتابًا يتضمن المواقف والنتائج والدروس والعِبر.
أذكر في سن السادسة عشر، أن أمي ذهبت بنفسها لشراء حديد وأثقال وأدوات كاملة لأمارس الرياضة المفيدة؛ فدُهِش البائعون من تصرفها كأول أم يقابلونها تفعل ذلك، ولكني لم أندهش لاندهاشهم؛ لأنهم لم يعرفوا أمي التي اتسمت بالحكمة وحُسن التصرف.
كانت – حفظها الله- تُلمِّح أكثر مما تُصرِّح؛ كلماتها قليلة، ولكن توزن بالجبال الراسيات؛ فعندما لاحظَت ترددي وشعوري بالقلق عند مغادرتي مصر لأول مرة، همست لي: “نحن أنجبنا رجالًا” . ظلت كلماتها محفورة في ذهني، فلم تكن العقبات والصعوبات التي واجهتني في غربتي، تمثل لي عبئًا كبيرًا؛ بسبب كلمات أمي التحفيزية، وكنت أهمس لنفسي:” أنت رجل يجب أن تتحمل”.
كنا بمرحلة المراهقة وفي عالم خالٍ من الإنترنت والفضائيات، لم نكن نطالع إلا الكتب، ننهل منها، ونستقي المعارف والعلوم في شتى المجالات.
كان المكان المفضل لي هو دار الكتب المطلة على النيل، الثرية في مقتنياتها من الكتب، والمبهرة بطرازها المعماري المُشيد في عهد الخديوى إسماعيل الذي بنى قصرين مرتبطين ببعضهما البعض، وربط بهما استراحة على النيل لوالدته شركسية الأصل “خوشيار قادين أفندي” بالعام 1909 م؛ لتقف على النيل للتنزه .
هذه الاستراحة هي نفسها دار الكتب التي أُغلقت لسنوات، ثم أصبحت حاليًا فندقًا مميزًا لزوار مدينة المنصورة.
على الأرصفة كانت تُعرض كتب المُلحدين والوجوديين بقروش قليلة؛ فتَشكل وجداننا- ونحن فتيان صغار- على أفكار هذه المؤلفات؛ فصرنا نطرح أسئلة على غرار: “أين الله؟ ومن أين أتى؟! فكنا نتشكك في كل شيء.
عجز الوالدان عن إثنائِنا عن هذا التفكير؛ حتى كان تأثير المخلوق الثاني؛ وهو نملة صغيرة، كانت تسعى إلى رزقها صباح يوم جمعة بكورنيش مدينة المنصورة في أواخر السبعينيات، حينما كنت جالسًا بمفردي متأملًا مُلهمي الرئيس في ذلك الزمان وهو نهر النيل.
كانت النملة تسير أمامي بمحاذاة سور الكورنيش؛ فانهمرت في خاطري أسئلة كثيرة:
– الأول: لهذه النملة أقدام ترتطم بالأرض ولا شك في أنها تُحدث صوتًا؛ فلماذا لا نسمعه؟!.. أجبت نفسي: لأن سمعي محدود بنطاق معين من الديسبل فلا نسمع صوت النملة وغيرها.
– الثاني: عندما تأملت الجانب الآخر من النيل (مدينة طلخا) حيث لم يكن ثمة مبانٍ، بل فقط اللون الأخضر على مرمى البصر، فسألت نفسي: بعيدًا في هذا الاتجاه من دلتا النيل جزيرة قبرص، ومن خلفها تركيا، وعلى يسارها اليونان، فلماذا لا أستطيع رؤية هذه البلاد؟! فأجبت نفسي: “لأن “بصري محدود”؛ وهكذا توالت الأسئلة؛ حتى وصلت إلى الإجابة الأخيرة؛ وهي أن “فكري محدود”.
شعرت حينها وكأن دُشًا باردًا انسكب على رأسي، ولأول مرة منذ سنوات أشعر براحة عجيبة، وأقتنع أن عقلي محاط بحدود معينة لا يمكن تجاوزها تمامًا مثل سمعي وبصري وكل جوارحي.
كانت هذه النملة سببًا في تغيير حياتي؛ إذ تخلصت بعدها مباشرة من كتب سارتر وماركس وإخوانهما، بل إني استبدلت أصدقائي بآخرين توافقوا مع ميلادي الجديد الذي عرفت فيه الله ربي الخالق المتعالٍ على مخلوقاته، الذي يسمع- سبحانه وتعالى- ما لا نسمع، ويرى ما لا نرى، ويعلم ما لا نعلم، ويقدر على ما لا نقدر؛ الواحد الأحد السميع البصير القادر الخبير.
أما المخلوق الثالث فليس بإنسان أو حشرة، بل كل شيء في الكون؛ وهو أحد مخلوقات بديع السموات والأرض؛ وهو”البُكور”؛ فعلى مدى عمري كله، أستيقظ مبكرًا جدًا، صيفًا أو شتاءً، سواء في أيام العمل أو العطلات؛ فعندما يصحو الآخرون من نومهم متأخرين، أكون قد نجحت في إنجاز عمل مهم في توقيت يكون فيه الذهن صافيًا، والطقس مُنعشًا والأجواء هادئة مشجعة على الإنتاج والعمل؛ مصداقًا لقول نبينا صلى الله عليه وسلم “اللهمَّ بارِكْ لأُمَّتي في بُكورِها”.
كان هذا جزءًا يسيرًا مما أخبرتُ به أبنائي في السعودية، وفي مصر، حينما قرر رواد الأعمال الاحتفاء بيوم ميلادي في “حُلم” مساحة العمل المشتركة في مدينتي المنصورة، التي عدت إليها مستكملًا ما بدأته منذ ثلاثين عامًا، متسلحًا بالتوكل على الله -عز وجل- والإنابة إليه، ويقيني الذي يقيني، مُتحليًا بالأمل ومُتسلحًا بالعمل، على درب خطتي التي وضعتها لربع قرن، ولم أحِد عنها يومًا؛ وهي بعنوان “السعادة في الداريْن”، وتلك قصة أخرى في مقال آخر.
د. نبيل شلبي