ليس من السهل تحديد ملامح الفرق بين الوهم والخيال؛ إذ إن اشتغالنا هنا سيكون على هياكل وهمية/ هلوسية متخيلة أو متوهمة، أي أننا نغرق تمامًا في عالم ما بعد الحقيقة، أو ما فوق الواقع، لكن ما الواقع حقًا؟
إن إحدى الفضائل الكبرى لبسط حدود العلاقة بين الوهم والخيال ليس فقط أن ندرك ماهية ممارساتنا التخيلية في الحياة اليومية العادية، وأن نشيح بأبصارنا ووجوهنا عن الأوهام التي تعمّر وعينا ولا وعينا أحيانًا، وإنما لأن هذا الاستقصاء يقودنا رأسًا إلى طرح سؤال أساسي: ما هو الواقع؟
في الحقيقة _إن كان ثمة حقيقة_ ليس ثمة واقع أصلًا، إن العالم المعاش، الواقع تحت أنظارنا ليس إلا أحد تجليات خيالنا الخصب والخلاق، ليس إلا تبديًا لحالة مخصوصة من الوعي به. العالم موجود، لكن ماهيته، والطريقة التي نتأوله بها تخص كل واحد فينا.
من جهة كاليجولا “بطل مسرحية سارتر ” فلم يكن ثمة خيال ولا واقع ولا وهم، هو أصلًا لم يشغل نفسه بالبحث عن الفرق بين الوهم والخيال؛ فقط لأنه كان يصنع واقعه، أو، ولنقلها بصريح العبارة، لأنه كان يحيل هلوساته وهذيانه إلى واقع.
صحيح أنني أدرك أن طائفة كبيرة من الفلاسفة والسيكولوجيين يقولون إن الشخص الهلوسي لا يصدق هلوساته ولا أوهامه، لكن كاليجولا لم يكن مقتنعًا بأنه يهذي؛ حيث اندغمت عنده الحدود بين الوهم والخيال والواقع، وصار، تبعًا لذلك، سهلًا عليه أن يشق الدرب خلف القمر أو أن يطلب المستحيل.
إنه خيال جامح لكن توفرت له الشروط والظروف التي هيأت له السعي خلف تأملاته أو أوهامه، ولنتذكر أن جان بول سارتر يصور لنا كاليجولا في المسرحية على أنه ديكتاتور متجبر،وأمره يُطاع، ولا يُعاند له قرار.
اقرأ أيضًا: لماذا تتفوق المرأة في التفاوض على الرجل؟
الوهم والخيال
وسنحاول، عبر التعريفات التالية، الوقوف على حدود العلاقة بين الوهم والخيال وذلك كما يلي:
ما الخيال؟
لكن هل ترى أننا في «رواد الأعمال» قادرون على تقديم تعريف للخيال؟ في ظني أن ذلك أمر عسير؛ لأن الخيال، من جهة أصله، عزيز على التحدد والإدراك، إنه يُعرف بتجلياته لا بماهيته، أي أننا نستطيع أن نقول عن ممارسة ذهنية ما أنها خيال أو تخيل، في حين أنه لو طلب منا أن نقدم تعريفًا للخيال لعزّ ذلك علينا.
لكن، وعلى الرغم من صعوبة هكذا تعريف، فإن هناك من ينظر إلى التخيل باعتباره القدرة على تكوين أفكار أو صور أو مفاهيم جديدة عن عمد والتي لا تقدم بشكل مباشر لإدراك حواس المرء. إنه عملية عقلية متعمدة.
لكن أليس الوهم كذلك؟ كلا، الوهم خيال وقد انحرف، وسنشبع الكلام على هذه النقطة في حينه.
إن خيالك هو، ببساطة، ما يمكنك أن تتخيل حدوثه، وفي الأساس يُعد الخيال طريقًا لكل التجارب الممكنة التي يمكن أن يمر بها وعيك. يوفر الخيال هياكل تسمح لنا بالمشاركة في حقائق مختلفة. إنه مثل جسر حبل عبر وادٍ، فهو يسمح لك بالذهاب إلى أماكن لا يمكنك الذهاب إليها بعقلك الواعي.
نحن أيضًا في أرض زَلِقة؛ فإذا كنت أذهب بخيالي إلى مناطق لم يعد عقلي الواعي قادرًا على حملي إليها، أليس معنى هذا أني أسقط في وهدة الهذيان والتوهم؟ كلا أيضًا، فطالما أنك ما زلت تدرك الحدود بين الوهم والخيال فلستَ واهمًا بعد. إنني أدرك أن التفرقة بين هذين الحدين (الوهم والخيال) على الصعيد النظري أمر عسير، لكننا نحاول الإحالة على التطبيق مباشرة علنا نفلح في درك المراد.
اقرأ أيضًا: نشأة ريادة الأعمال.. بحث في جينالوجيا المفهوم
الخيال وصنع المعنى
ما المعنى في هذه الحياة؟ بل ما معنى الحياة أصلًا؟ نعم أعلم أن لدى كل من ألفريد أدلر وتيري إيجلتون كتابًا بهذا العنوان، لكني أقصد معنى الحياة بالنسبة لك أنت؟ لو فتشت في نفسك فستجد أنه لن يمكنك العثور على معنى لحياتك من دون الاستعانة بالخيال.
تلك هي فضيلته الكبرى، المعنى في الوجود شحيح، لكن إدراك هذا المعنى (الذاتي والمخصوص) لن يكون إلا عبر مهماز الخيال في جسد الوقائع التافهة واليومية التي نباشرها كل يوم.
وكان كارل جوستاف يونج؛ عالم النفس الشهير، أحد أبرز من أشاروا إلى تلك العلاقة بين صوغ المعنى وبين الخيال _هنا أيضًا يستبين الفرق بين الوهم والخيال_ فالوهم يسقطك في دوامة هذيانية، أما الخيال فيقودك إلى احتمال حياتك، بعد صنع معنى لها.
اقرأ أيضًا: دعم رواد الأعمال أثناء كورونا.. طرق لمواجهة الوباء
الخيال عمدٌ ونية
لعلك أدركت، عبر طرحنا الفائت، أن الخيال عملية عمدية، لكن ما علاقة ذلك بالنية؟ دعني أبسط لك المسألة على نحو مغاير: الآن أنا أجلس خلف مكتبي لأكتب هذا المقال، لا شك أني ألهبت خيالي كي أعثر، في نهاية المطاف، على هذه النسيرة النظرية التي أطرحها الآن عليك.
إذًا، قبل أن أضع حرفًا على الورق كنت «انتويت» طرح فكرة معينة، تلك الفكرة التي قادني إليها إعمال الخيال، هكذا هي عملية الخيال (متعمدة وواعية).
والناس لهم في خيالهم نوايا شتى، بعضهم يستخدم خياله ليهرب من مسؤولياته، وبعضهم الآخر يغرق في فعل التخيل ليدرك أفضل السبل لتحمل تلك المسؤوليات.
اقرأ أيضًا: نصائح فينوس ويليامز لرواد الأعمال.. قل وداعًا للخوف
الوهم زلة خيال
أخطر ما في فعل الخيال أنه قد يقود، عبر زلة أو خطأ ما، إلى الوهم. الخيال عمدي _كما أسهبنا من قبل_ لكن الوهم زلة خيال، الوهم خيال انحرف عن مساره.
الوهم _ولاحظ هنا الفرق بين الوهم والخيال_ إخراج للموضوع عن طبيعته، إنه إضافة خاطئة لواقعة ما أو حذف منها.
وبالعودة إلى قاموس ويبستر، نلاحظ أن الوهم هو:
«تصور لشيء موجود بشكل موضوعي بطريقة تؤدي إلى سوء تفسير طبيعته الفعلية».
الوهم، إذًا، نتيجة ثانوية للخيال، إن الموضوع المتوهم يُدرك عن طريق الحواس، ولكنه يُدرك على نحو خاطئ، ربما من خلال علمية خداع، لكنها قلَّ أن تكون متعمدة.
اقرأ أيضًا:
تزامنًا مع الأسبوع العالمي لريادة الأعمال.. لا تغفل تلك الأمور
مخاطر كونك رائد أعمال.. كيف تواجه التحديات؟
نصائح ماريسا ماير لرواد الأعمال.. إرشادات تقودك للنجاح