توافرت في كل فرد منهم صفات رائد الأعمال من المخاطرة والسعي والبحث الجاد والابتكار والإبداع
العقيلات.. محطات ذهبية في تاريخ المملكة.. ساهموا في اقتصادها وبناء فكر ريادي مختلف في سمائها
لا يمكن الحديث عن تاريخ المملكة ورحلتها العامرة في تأسيس الاقتصاد الوطني، دون المرور بـ”قوافل العقيلات” التي شكّلت أهمية كبرى على الصعيد التاريخي للمنطقة كلها وليس للمملكة فحسب، فقد ارتبط اسم “العقيلات” بحراك تجاري وتنموي ضخم رغم بدائية التعامل آنذاك وصعوبة الحركة والتنقل، إلا أنهم كانوا لبنة في بناء الحركة التجارية النهضوية في السعودية التي امتدت لأكثر من أربعة قرون خلت.
أقام العقيلات حراكاً تجاريًا انتشر صداها في مختلف أرجاء الوطن العربي، حتى امتدّ إلى أقاصيه في المغرب، بل ارتحل إلى عمق الشرق حيث الصين والهند، فقد كان للعقيلات دور فاعل في التجارة والحركات الاقتصادية والسياسية معاً من ربط للدول العربية والإسلامية على مرامي اتساع طرقهم التجارية، بل ساهموا في الحركات السياسية الفاعلة ضد الاحتلال الفرنسي وغيره، بل شكلوا أكبر سوق لبيع المواشي في البلاد العربية داخل بلادهم فأصبحوا بذلك علامة تجارية للترحال تحاكي قصة الشتاء والصيف لقريش المذكورة في القرآن الكريم.
وأصبح تجّار العقيلات مع عائلاتهم وقبائلهم نواة فكرية رائدة لريادة الأعمال في المملكة، حيث عرف في كل فرد من العقيلات صفات رائد الأعمال من المخاطرة والسعي والبحث الجاد والابتكار المميز في إبداع يبحث عن سبل النماء لأجل الوطن، فكل فرد من أفراد العقيلات وعبر دراسة تاريخهم ستجد فيه خاصية الزئبق الماهرة في البحث عن الأفكار الجديد والتخطيط وقنص الفرص والإبداع والصلابة والثقة الكبيرة بالنفس مع المخاطرة العالية في الترحال والبحث والقدرة على التعلم من التجربة والدافع الذاتي المستمر والرغبة في التغير مع الاستقلالية الفريدة.
ومن روائع ما قدمته أسفار العقيلات احتكاكهم بشعوب العالم مما جعلهم سفراء يحملون شمائل وسجايا أهل نجد من السمعة الطيبة والصدق الملزم، حيث تذكر الروايات أن تجار الشام كانوا لا يوقعون العقود مع العقيلي، بل يكتفون فقط باسمه الأول والثاني، كدليل على التزامهم بالمروءة والصدق، لذا فقد خلف العقيلات وراءهم عمراً ثانياً من الذكر الطيب الخالد عند تجار العراق والشام ومصر من شهامة ووفاء ومكارم للأخلاق، فالعقيلات لم يكونوا أبدًا بدواً متصارعين كما يستعرض البعض سيرتهم، بل كانوا مثالًا على التحضر والتمدن واستمدوا اسمهم من العقيل الملبوس تميزًا لهم على رؤوسهم.
قوافل العقيلات وفي ترحالهم بأرجاء الأرض، حملوا معهم الكثير من المضامين الفكرية والحضارية التي أثمرت عن أكبر الرحلات التجارية في الفترة التاريخية الماضية والتي ساهمت في إنعاش حركة التجارة طيلة أربعة قرون متعاقبة، فأضافوا بذلك مفاهيم استثمارية ونواة شكلت الطفرة الاقتصادية الكبرى في المملكة من البيوت التجارية التي أصبحت تأسيسًا للريادة الاقتصادية وأحد أهم وأقوى التجمعات الاقتصادية في المملكة كامتداد طبيعي للإرث التاريخي العريق الذي استمد من قبائل العقيلات، كما شكلوا وبالتوازي مع ذلك حركة ثقافية واسعة الانتشار بالتعريف بالمكونات الاجتماعية في المنطقة فنقلوا المعارف وأسسوا درباً كانوا هم فيه أول السفراء.
العقيلات رمز من رموز الوطن، لا ينتمون إلى قبيلة أو عائلة بعينها، بل هم مجموعة من العائلات الكريمة التي تصدرت التجارة إلى بلاد الكويت والشام والعراق والأردن وفلسطين وتركيا ومصر وحتى إلى الهند، وقد استمروا في عطائهم من تجارة الإبل وغيرها إلى ما قبل خمسين عاماً من الآن حوالي عام 1949 ميلادية، كانت سفرياتهم تمتد من شهر إلى سنين، وكان ترحالهم وحده مدرسة بعينها، من تأمير أحدهم واتباع الطرق السليمة والبحث عن الكلأ في الطرقات، خاصة في رحلات الصيف.
في الحقيقة إن الحديث عنهم لا تشمله سطور ولا توفي حقه كتب لما يمثله “العقيلات” من محطات ذهبية في تاريخ المملكة، أهدت تجارب من نور وعملاً ودروساً من الريادة، وهو ما يجعلنا نفرد في مجلة “رواد الأعمال” بابًا خاصًا للعقيلات نحكي فيه قصصهم ومواقفهم ومآثرهم الحسنة كل شهر، نرسم فيه إجابات لكثير من الأسئلة التي تعترضنا حول كيف ساهموا في اقتصاد هذا الوطن وبناء فكر ريادي مختلف في سماء المملكة.