تتبنى السعودية نهجًا استراتيجيًا لتعزيز التوظيف القائم على الجدارات الوظيفية، يعتمد على مجموعة من المهارات، والقدرات، والمعارف التي يمتلكها الفرد، والتي تمكنه من أداء مهام معينة بكفاءة وفاعلية.
تشمل هذه الجدارات: المعرفة الفنية، والمهارات الشخصية، والقدرات العقلية، والقدرة على التفكير النقدي، والتواصل الفعّال، وغيرها من الصفات التي تساعد الفرد على النجاح في مجاله المهني أو حياته بشكل عام.
تنمية الموارد البشرية
ويأتي هذا التوجه تحقيقًا لتوصيات مجلس الوزراء، وتجسيدًا لبرنامج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- لتنمية الموارد البشرية؛ وذلك ضمن إطار رؤية 2030 التي تسعى إلى بناء اقتصاد مزدهر قائم على الكفاءات الوطنية، واتساقًا مع برنامج تعزيز الشخصية السعودية، الذي يحظى بمتابعة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله-؛ حيث يعد المواطن ركيزة أساسية في تحقيق أحد أهم محاور الرؤية؛ وهو محور تنمية الموارد البشرية، من خلال تطوير مهاراتها وإنتاجيتها ورفع كفاءتها إلى أعلى المستويات.
وفي هذا السياق، يمثل برنامج الملك سلمان لتنمية الموارد البشرية أحد الركائز الأساسية لدعم هذا التوجه؛ إذ يهدف إلى إعداد مواطن منافس عالميًا؛ عبر تحقيق مجموعة أهداف فرعية، تشمل: رفع جودة أداء الموظف الحكومي وزيادة إنتاجيته، وتطوير بيئة العمل، ووضع سياسات وإجراءات واضحة لتطبيق مفهوم الموارد البشرية، وإعداد وبناء القادة من الصف الثاني.
ويعكس هذا البرنامج التزام المملكة بتعزيز كفاءة سوق العمل؛ من خلال اعتماد أسس التوظيف المبني على الجدارات الوظيفية؛ ما يسهم في بناء قوة عاملة وطنية قادرة على تحقيق التنمية المستدامة، وتعزيز التنافسية على المستويين المحلي والدولي.
سوق العمل العالمي
يشهد سوق العمل العالمي تحولات جذرية بفعل التطور التكنولوجي، والتغيرات الديموجرافية، والتحولات الاقتصادية، والبيئية؛ حيث يُعد تقرير “مستقبل الوظائف 2025” الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي مرجعًا رئيسًا لرصد هذه التغيرات؛ بتسليط الضوء على الاتجاهات التي ستشكل مستقبل الوظائف حتى عام 2030.
تأثير التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي
يتناول التقرير تأثير التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على الوظائف، والتحديات والفرص المرتبطة بهذه التحولات، كما يقدم توصيات لمواجهة المتغيرات القادمة؛ بالتركيز على تطوير المهارات، وإعادة تأهيل القوى العاملة.
ويتناول التقرير أبرز المحاور والتوجهات الرئيسة التي ستشكل سوق العمل حتى عام 2030؛ حيث سيكون للذكاء الاصطناعي والتطور التكنولوجي تأثير كبير.
إذ يتوقع أن تؤثر هذه العوامل على 86 % من المؤسسات بحلول عام 2030، مع نمو الطلب على وظائف مثل: أخصائيي البيانات الضخمة، ومهندسي التكنولوجيا المالية، ومطوري التطبيقات والبرمجيات، ومتخصصي الأمن السيبراني، بينما تتراجع الوظائف الإدارية والكتابية والمهن التي تعتمد على المهارات اليدوية التقليدية التي يمكن استبدالها بالتشغيل الآلي.
تأثير التغيرات الديموجرافية
كذلك، سيكون للتغيرات الديموجرافية تأثير مباشر على سوق العمل؛ حيث ستؤدي الشيخوخة السكانية إلى زيادة الطلب على الوظائف في قطاعات الرعاية الصحية والتعليم، بينما ستتطلب الزيادة في الفئات السكانية الشابة- في الدول النامية- تعزيز فرص العمل في مجالات التعليم والتدريب وإدارة المواهب.
ووفقًا للتقرير، سيشهد سوق العمل بحلول 2030 خلق 170 مليون وظيفة جديدة مقابل فقدان 92 مليون وظيفة؛ ما يعني زيادة صافية قدرها 78 مليون وظيفة.
استراتيجيات مواجهة التحولات في سوق العمل
ولمواجهة التحولات القادمة، يقترح تقرير “مستقبل الوظائف 2025” عدة استراتيجيات، تتوافق مع توجهات الجودة والتميز المؤسسي، ومنها:
- تعزيز برامج إعادة التأهيل والتدريب المستمر؛ حيث يحتاج 59 % من القوى العاملة إلى التدريب بحلول 2030.
- التركيز على المهارات المطلوبة مستقبلًا؛ مثل التفكير التحليلي، والمرونة، والقيادة، والتأثير الاجتماعي.
- تبني سياسات داعمة للتحولات الخضراء والرقمية؛ لضمان استدامة النمو الاقتصادي.
- تشجيع مبادرات التنوع والاندماج لزيادة فرص التوظيف، وجعل بيئات العمل أكثر شمولية.
الجدارات المهنية
مع تزايد التحولات في سوق العمل، يأتي مفهوم الجدارات الوظيفية كعنصر أساسي في التوظيف؛ إذ أصبح الاعتماد على المهارات والخبرات التقليدية غير كافٍ لضمان النجاح في بيئات العمل المستقبلية؛ ما يستدعي تطوير آليات الاختيار لتكون أكثر دقة وملاءمة مع متطلبات سوق العمل المتغيرة.
مقاييس التطوير الشخصي
وهنا يبرز دور المقاييس المهنية ومقاييس التطوير الشخصي كأدوات ضرورية لفهم الأنماط السلوكية والمهنية للأفراد؛ إذ تساهم مقاييس تحليل تطور السلوك الشخصي في فهم أنماط السلوك، وقياس السمات الشخصية، والتفاعل المهني، والجدارات اللازمة لكل وظيفة.
بينما تساهم مقاييس الميول المهنية التي تتبنى نظرية الذكاءات المتعددة في تحديد الميول المهنية للفرد، ومدى توافقها مع طبيعة المهنة ومتطلبات سوق العمل؛ ما يتيح تحديد نقاط القوة لدى الأفراد وتوجيههم نحو المجالات التي يمكنهم تحقيق التميز والرضا الوظيفي فيها ، كما يسهم في تحقيق توافق مثالي بين المرشح والوظيفة، وتطوير مهارات القادة كذلك.
إن تطبيق هذه الأدوات بشكل منهجي لا يخدم فقط الأفراد في بناء مساراتهم المهنية بفاعلية أكبر، بل يساعد أيضًا المنظمات في تحقيق أهدافها من خلال توظيف الأشخاص الأكثر توافقًا مع متطلباتها.
تحسين الإنتاجية
إنَّ وجود بيئة عمل تستند إلى أنظمة جودة عالية ومعايير تميز مؤسسي، مع توظيف أفراد ذوي جدارات مهنية وسلوكية عالية، يسهم في تحسين الإنتاجية وتقليل معدلات الاحتراق والتسرب الوظيفي. وبهذا، تكتمل دائرة الإنجاز؛ حيث تتركز الجهود على تطوير المنتجات والخدمات وتحسين المهارات؛ ما يعزز التنمية المستدامة وجودة الحياة.
الاستثمار في الجدارات المهنية
الاستثمار في الجدارات المهنية والمقاييس، ليس مجرد استراتيجية توظيف، بل جزء من منظومة الجودة والتميز المؤسسي؛ فالمؤسسات التي تعتمد على آليات اختيار دقيقة- تستند إلى تحليل السلوكيات والميول المهنية- ستحقق عدة مكتسبات من أهمها:
- انخفاض معدل التسرب الوظيفي؛ حيث يعمل الأفراد في بيئات تناسب مهاراتهم وشغفهم.
- تحقيق أعلى مستويات الإنتاجية والابتكار؛ نظرًا لتوظيف الكفاءات المناسبة لكل دور وظيفي.
- تحسين جودة المنتجات والخدمات؛ من خلال توظيف مَنْ يمتلكون الجدارات المطلوبة.
إنَّ تطبيق معايير الجودة في التوظيف من خلال تحليل الجدارات والسمات الشخصية، يسهم في تحقيق الاستدامة في الأداء المؤسسي، ويؤدي إلى بناء بيئة عمل تدعم الإبداع والتطوير المستمر.
مستقبل الوظائف
ختامًا، إن مستقبل الوظائف لا يعتمد فقط على التكنولوجيا، بل على قدرة الأفراد والمؤسسات على التكيف والتطوير المستمر، والاستثمار في مقاييس التطور الشخصي والميول المهنية؛ ما يضمن توافق الأفراد مع وظائفهم، ويقلل من الاحتراق الوظيفي، ويرفع جودة الأداء المؤسسي.
ولتحقيق ذلك، تحتاج المؤسسات إلى دمج أنظمة الجودة ومعايير التميز المؤسسي، ومقاييس التطور الشخصي، والميول المهنية في سياسات التوظيف؛ ما يضمن بيئات عمل أكثر كفاءة، واستدامة، وإنتاجية؛ فمستقبل التوظيف ليس في عدد الوظائف المتاحة، وإنما في مدى توافقها مع الجدارات الحقيقية للأفراد، ومدى قدرتها على دعم عجلة التنمية وجودة الحياة.