تزخر الشركات في العالم بالكثير من مصطلحات التنمية البشرية الواهية التي فقدت قيمتها –للأسف– بمرور الوقت.
لا يمر يومٌ في العمل داخل الشركات دون منافسة –التي قد تكون شرسة في بعض الأحيان– أو خلافات بين الزملاء، فلا وجود لبيئة العمل المثالية التي تجمع الزملاء في العمل كالعائلة الواحدة أبدًا –إن صح لنا القول– وهنا يجد الموظف نفسه أمام مكتب مدير الموارد البشرية، لا يعرف الفرق بين وهم الاستفادة منه وخيال التقدم الوظيفي.
واقع غريب
فالواقع الملموس لا يمت لعبارات التنمية البشرية بصلة وطيدة، وها هو الموظف المسكين يطرق الباب بخجل، ويتجه نحو مكتب مدير الموارد البشرية ليجلس على مقعده المقابل لمكتب يحفل بالكثير من الكلمات الرائعة الموضوعة خصيصًا للاحتيال على عقله، مثل: “الأحلام”، “السلام الداخلي”، و”الأمان الوظيفي”، والويل كل الويل إذا صدّق الأخيرة.
لم تكن التنمية البشرية لتكون خدعة بالأساس؛ إذا اعتمدت إدارة الموارد البشرية على الحقائق التي يمكنها أن تغيّر واقع الموظف البائس، وتنقله من العالم الوهمي لسلبية الافتراضات إلى الواقع الحقيقي لتطبيق العبارات الاستثنائية.
ووقع الكثير من الأدباء والروائيين في فخ التنمية البشرية؛ التي توعظ البعض بالإبقاء على الحلم مهما بلغ بهم من الألم، ومعانقة السحاب دون النظر إلى المآسي المتتالية التي زلزلت عالمهم.
لكن الواقع بالفعل يختلف تمامًا عن المعتقدات والاستنتاجات -وليس دفاعًا عنهم- فإن مصطلح التنمية البشرية يعتبر من أشهر مصطلحات العصر الحديث، أما الأدباء والروائيين العظماء في العالم انتهجوا الكتابة عقودًا قبل معرفة سياسة النصائح التي يقدّمها العلم المعاصر؛ إذ كان هذا المصطلح مقتصرًا على الجوانب السياسية والاقتصادية.
وعندما بدأ خبراء التنمية البشرية قديمًا في إبداء طاقتهم الإيجابية ونصائحهم المشرقة إلى العالم –وكأي بداية جديدة لعلم مختلف– لم يكونوا على علم بأنه سيتم استغلالها من أجل العديد من المصالح الشخصية، والترويج لشخصيات بعينها، دون الاهتمام بعنصر رأس المال البشري على الإطلاق.
فكم من مادة جديدة أطلقها العلماء خلال العصور السابقة، وتم استغلالها لأسباب غير أخلاقية؟ والواقع كذلك بالنسبة للتنمية البشرية.
مفهوم التنمية البشرية
وقبل الانخراط في وهم المصطلحات الخاصة بهذا العلم، ألا يمكننا أن نتطرق إلى مفهوم التنمية البشرية؟
لا يعتبر المفهوم الأصلي لما يُسمى “التنمية البشرية” حديث العهد؛ بل إنه يعود إلى الحقبة الزمنية المواتية للحروب العالمية؛ حيث ظهرت بداياتها في الولايات المتحدة الأمريكية، معتمدة على نظرية سياسية بحتة تسعى إلى دمج الدول النامية التي نالت استقلالها بالاقتصاد العالمي.
قد يكون الأمر مفاجئًا أو صادمًا بعض الشيء؛ فالتنمية البشرية التي تعد حاليًا مجموعة من المصطلحات التي يستخدمها العديد من الشخصيات لصنع مجال عمل خاص بهم، أو تعتمد عليه بعض الإدارات في الشركات والمؤسسات الكبيرة، كان في الأصل مفهومًا سياسيًا واقتصاديًا.
عُرفت التنمية البشرية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بأنها العملية الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، والسياسية الشاملة التي تستهدف تحسين رفاهية الأفراد، مع استمرار مشاركتهم النشطة في عملية التطوير والتنمية.
نشأة متغيرة
مرت نشأة التنمية البشرية بالعديد من المراحل، بداية من الكلاسيكية عقب الحرب العالمية الثانية؛ حيث اعتمدت على آراء مجموعة من العلماء المشهورين، أمثال: آدم سميث، توماس مالتوس، وديفيد ريكاردو، واعتبرت هذه النظريّة أنّ الأفراد ورؤوس الأموال هما المكوّنان اللذان يُساهمان في الوصول إلى التنمية الاقتصاديّة. وبمرور السنوات تطورت النظريات حتى اهتمت بتنمية الإنسان أولًا.
وبالتالي؛ فإن المفهوم الخاص بهذا المجال -وكما تبدو الفكرة الأساسية منه- هو تنمية العنصر البشري أو الإنسان، فهو العلم الذي يهتم بتطوير وتنمية قدرات وإمكانيات الفرد بصفة دائمة ومستمرة؛ ما يساعده في ممارسة حياته والأنشطة المختلفة بطرق أفضل، فضلًا عن توسيع قدراته، والخيارات المتاحة أمامه، بينما يعزز من الحريات والإعمال بحقوق الإنسان.
حقوق الإنسان
وفي الوقت ذاته فإن التنمية البشرية تعمل على تطوير الإنسان بصفة عامة؛ من أجل الوصول إلى نتائج اجتماعية واقتصادية أفضل.
من جهتها، تعرّف الأمم المتحدة مفهوم التنمية البشرية بأنها: العمليّة التي توسّع خيارات الناس، وذلك عن طريق توسعة القدرات البشريّة من خلال عيش حياة صحيّةً، وتوفير المعرفة للإنسان، إضافة إلى التمتع بمستوى لائق من الحياة.
لا تنفى التنمية البشرية واقع أن الفرد يتحتم عليه أن يعمل على تطوير ذاته؛ حتى يتمكن من تحسين حياته، وبالتالي فإن هذه العملية تستهدف بالأصل تحسين الاقتصاد العالمي، وتوفير الموارد التي تساهم في الوصول إلى هذا الهدف.
وتراعي التنمية البشرية عدة عوامل أساسية؛ وفقًا للباحثين في الإنسانيات، وهي:
1- تنمية المعرفة والمهارات المكتسبة.
2- العيش في بيئةٍ صحيّةٍ.
3- توفير المستوى الجيد اللائق من المعيشة.
4- الحفاظ على حقوق الإنسان.
5- تحسين مستوى أداء الفرد.
6- النموّ والارتقاء الشخصيّ.
8- تحسين المستوى الاجتماعيّ.
9- رفع المعنويات لدى الأفراد.
أهداف متنوعة
توالت السنون مع الأهداف السابق ذكرها؛ لكن التطور الذي شهدته التنمية البشرية في العالم كان ضعيفًا؛ حيث اعتمد على مجموعة من الأشخاص الذين اتخذوا هذا المجال ذريعة لجلب المال.
وبينما كانوا يبثون الشعارات الفارغة اقتنع الكثير من الأفراد بها في محاولة منهم للعمل على تطوير ذاتهم، والخروج من الأزمات التي أحاطت حياتهم.
وعلى جانب آخر، كانت الأهداف الإدارية في الشركات والمؤسسات هي العامل الرئيسي لاتباع هذا النهج؛ حيث حرصت إدارة الموارد البشرية على اتباع هذه التعليمات التي يمكنها تطوير الإنسان في بيئة عمله؛ من أجل الحصول على أفضل نتائج ممكنة من الموظفين.
لكن لم تول إدارات الموارد البشرية اهتمامًا كبيرًا لأصول هذا العلم، وعوضًا عن البحث واللجوء إلى المختصين كانت كتب الأدباء والروائيين وأقوال المشاهير هي الملاذ الآمن لهم.
“عندما تكون الأيام تشبه بعضها بعضًا، فهذا يعني أن الناس توقفوا عن ملاحظة الأشياء الطيبة التي تخطر في حياتهم”.
“يوجد دائمًا من هو أشقى منك، فابتسم”.
“لا شيء يستحق الحزن، دع الحزن للحمقى”.
وللأسف أصبح استغلال عبارات نجيب محفوظ، باولو كويلو، ستيف جوبز وغيرهم الكثير من المشاهير حول العالم مباحًا للإدارة الضعيفة؛ فهي الدليل لهذا المجال، دون تدقيق، علمًا بأن أصحاب هذه المقولات لم يبحثوا عن دور في هذه المعضلة التي اتبعها كل جاهل.
إدارة لتنمية رأس المال البشري
وبعد بحث طويل في أصول التنمية البشرية وعلاقتها بالإدارة داخل الشركات والمؤسسات والمنظمات وجدنا أن الأهداف الإدارية لها تسعى إلى تخفيف العبء مع مراعاة عملية الإشراف ومتابعة الكوادر، واكتشاف الكفاءات الجديدة، وتعزيز المهارات الموجودة بالفعل لدى الموظفين، وبالتالي الوصول إلى نتيجة مثالية تعتمد على مقولة واحدة؛ وهي: “الإنسان المناسب في المكان المناسب”، ما ينعكس بالطبع على الناحية الاجتماعية للفرد، وطرق تعاطيه مع نفسه والآخرين، إضافة إلى التأثير الإيجابي لذلك في النتائج المالية، ما يؤثر بالطبع في الاقتصاد برمته.
اقرأ أيضًا:
الموظف الأخطبوط.. بين الإبداع في العمل وفقدان الهوية
المدير المتحيز وطرق التعامل معه