تعرف الهندسة بأنها مهنة تصميم وبناء وتشغيل الهياكل والآلات والأجهزة الأخرى من الصناعة؛ أي إنها تطبيق للمعارف والعلوم؛ لحل مشكلات المجتمع بأبسط الحلول، وأقل التكاليف؛ لتحقيق الإيرادات.
ولا شك في أن المهندسين يقومون بدور حيوي ورئيس في إتاحة الاستخدامات العلمية للاكتشافات العلمية والابتكارات، التي تعزز من قدرة الإنسان على تسخير أدوات الطبيعة في خدمته.
وغالبًا ما يكون المهندس مسؤولًا عن اتخاذ القرار من بين عدة بدائل، مع مراعاة الجانبين الفني والاقتصادي؛ لذا يحتاج المهندس إلى الإلمام بالأسس الاقتصادية؛ ليقوم بتقييم المنشآت المختلفة، والمشاريع البديلة، واختيار الأنسب من بينها، من حيث الجدوى الاقتصادية بعد التحقق من جدواها الفنية.
وترتبط الهندسة بعلم الاقتصاد ارتباطًا وثيقًا؛ كونها معنية بالتطبيق المنطقي للمداخل الهندسية؛ لتحقيق أهداف الاستثمار؛ ما يؤدي إلى معالجة عمليات الإنتاج بطريقة اقتصادية؛ لذا يمكن القول: ينبغي دراسة المشاريع، وجميع الأعمال الهندسية من وجهتي النظر الاقتصادية والهندسية في إطار موحد؛ وهو: ” الاقتصاد الهندسي “.
مفهوم الاقتصاد الهندسي
الاقتصاد الهندسي؛ هو أحد فروع علم الاقتصاد الحديثة نسبيًا، الذي يهتم بإجراء الدراسات العلمية المتخصصة والتحليلية؛ للإنتاج والتسويق والتمويل، وكذلك كفاءة أداء وربحية المشروعات القائمة، والمزمع إقامتها مستقبلًا.
ويحدد الاقتصاد الهندسي العلاقات الاقتصادية بين العمليات الإنتاجية، بما يضمن كفاءة استخدام الموارد الاقتصادية؛ لتحقيق الاستغلال الأمثل لتلك الموارد، باعتبار أن محدودية الموارد هي جوهر المشكلة الاقتصادية.
ويكون الاقتصاد الهندسي معنيًا بتحقيق المتطلبات المادية للأفراد، بما يرضي ويشبع رغباتهم من حيث مستوى الجودة، ومراعاة البعد الخاص بالتكاليف؛ أي إن المهمة تكون مضاعفة على الهندسة لإيجاد الوسائل اللازمة لتحقيق المنفعة، والإشباع من عملية استغلال الموارد؛ لذا يتكامل عمل الجانب الهندسي مع الجانب الاقتصادي؛ لإشباع الحاجات المختلفة.
ويمكن القول إن الحرب العالمية الثانية- رغم مآسيها- كان لها فضل كبير على الاقتصاد الهندسي؛ إذ كانت السبب الرئيس لاعتماد الهندسة الصناعية في أمريكا؛ ومن ثم انتشرت في كل أوروبا؛ حيث كانت تمارسها أمريكا فى إدارتها الحربية خلال الحرب العالمية الثانية؛ إذ استخدمت الأساليب الكمية في نظام الدفاع؛ بهدف الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة. وقد أُذهلت القيادة الأمريكية من النتائج؛ ما جعلها- بعد انتهاء الحرب- تعمم استخدام الهندسة الصناعية في كافة مؤسساتها الصناعية.
أهمية الاقتصاد الهندسي:
تعود أهمية الاقتصاد الهندسي، وتزداد يومًا بعد يوم؛ لعدة أسباب:
1- التشابك بين اقتصاديات الدول المختلفة، سواء داخل اقتصاد البلد الواحد، أو بينه وبين اقتصاديات الدول الأخرى، خاصةً في ظل اقتصاد العولمة، بل يمكن القول أيضًا داخل القطاع الواحد، أو بينه وبين القطاعات الأخرى داخل الاقتصاد القومي.
2- أدى ازدياد الدور الذي يلعبه النظام الرأسمالي إلى زيادة المنافسة على استغلال الموارد المتاحة الاستغلال الأمثل، خاصةً في ظل ندرتها وتوزيعها بين الاستخدامات البديلة.
3- العمل على إعداد دراسات علمية متخصصة لتحليل كافة الجوانب الاجتماعية والمالية لأي قرار استثماري، خاصةً في ظل التطورات التكنولوجية السريعة والمتلاحقة، التي جعلت عملية اختيار وتحديد أي من المشروعات أكثر جدوى اقتصاديًا، أمرًا بالغ الصعوبة.
4- تؤدي خسارة المستثمر لرأس ماله إلى فشل المشروع؛ ما يؤدي إلى فقدان التراكم الرأسمالي على مستوى الاقتصاد القومي ككل.
اقرأ أيضًا: القيادة: سرية الأهداف.. طريقك للنجاح
التجربة اليابانية
بعد إنتهاء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، بدأت تزداد الدراسات والأبحاث والكتابات المختلفة للباحثين الأمريكيين والغربيين حول التجربة اليابانية الحديثة، التي يطلق عليها “المعجزة اليابانية”، والتي أثارت تخوفًا وإعجابًا من نجاح اليابان، وفوزها في نهاية المطاف بالزعامة القطبية العالمية، خاصةً عند انتهاء نظام القطبية الثنائية في بداية التسعينيات، وانتهاء الحرب الباردة.
ويرجع ذلك إلى أن اليابان حققت- في فترة الحرب- قفزات كبيرة في عالم الثورة التكنولوجية والصناعة الكهربائية بشكل خاص، والاقتصاد بشكل عام؛ ما جعل منتجاتها تنافس نظيرتها الأمريكية؛ الأمر الذي دفع الباحثين والكتاب للبحث والوقوف على أسباب وأسرار المعجزة اليابانية، ليس للاستفادة والتعلم منها فحسب، بل أيضًا للحد من الاندفاعة اليابانية المعاصرة.
ويُعدَ نجاح التجربة اليابانية خلال العقود الماضية نموذجًا لسعي المنظمات والشركات المختلفة لتطبيق الاقتصاد الهندسي؛ عبر الاهتمام بعملية الإنتاج؛ إذ اتضح من خلال تتبع التجربة اليابانية أن معظم التطوير والتحسينات المستمرة فى العملية الإنتاجية، قد أدت إلى خفض التكلفة؛ وبذلك تمكنت اليابان من تحقيق إنجازات، ليس على المستوى الفردي فقط، بل أيضًا على المستوى العالمي؛ لاعتمادها وتبنيها فلسفة متقدمة ورائدة؛ منها نظام الإنتاج فى الوقت المحدد، أو ما يُسمَّى بـ ” نظام تقليل الفاقد “.
وتُعدَ سياسة تقليل الفاقد من أكثر أنظمة العملية الإنتاجية شهرة ونجاحًا؛ إذ بدأ تطبيقها من خلال شركة السيارات اليابانية المعروفة تويوتا فى السبعينيات؛ فأظهرت نتائج مبهرة في الثمانينيات؛ حيث تفاجئت الشركات الأوروبية والأمريكية بالتجربة اليابانية ونجاحها من خلال الاقتصاد الهندسي وتطبيق نظام تقليل الفاقد ، مما أدى بالخبراء الأمركيان والأوروبيين فى دراسة هذا العلم الجديد ومحاولة فهم سياسة تقليل الفاقد ومحاولة تطبيقها فى منظماتهم وشركاتهم المختلفة.
وإلى يومنا هذا مازالت سياسة تقليل الفاقد متفوقة على أي سياسة أخرى فى عملية التصنيع وما زالت شركة تويوتا اليابانية هي النموذج المثالي للاقتصاد الهندسي فى العالم وما زال نجاحها يتوالى.
اقرأ أيضًا:
الاقتصاد الأصفر.. والتنمية المستدامة (2/2)