إنَّ أهم ما يشغل الاستراتيجيات الدولية في هذه الآونة، هو السعي لضمان الاستدامة وجعل الاقتصاد قائمًا على المعرفة؛ إذ أبدت السياسات الدولية اهتمامًا كبيرًا بمجالات دعم ريادة الأعمال بمختلف تصنيفاتها، كإحدى أهم ركائز التنمية.
وفي هذا الإطار، تبرز أهمية ريادة الأعمال بشكل عام، وريادة الأعمال المستدامة بشكل خاص؛ لكونها ذات أبعاد متعددة، فبالإضافة لبعديها التجاري والاقتصادي في تحقيق العائد والربح، فإنها تشمل أيضًا البعد البيئي، من حيث الحفاظ على الموارد وعدم الإضرار بالبيئة، فضلًا عن البعد الاجتماعي ومحاولة إيجاد حلول لمشاكل اجتماعية أو اقتصادية يعاني منها المجتمع.
التنمية المستدامة
ومع ازدياد الاهتمام العالمي بخلق اقتصاد معرفي مستدام، تغيرت التوجهات فيما يخص التنمية الاقتصادية والاستثمار، فأصبحت التنمية المستدامة هدفًا تسعى الدول لتحقيقه.
وتُعرّف التنمية المستدامة بأنها تلبية احتياجات ومتطلبات الحاضر، مع الحفاظ على الموارد الطبيعية، والحد من استنزافها لتمكين الأجيال القادمة من تحقيق متطلباتهم واحتياجاتهم كذلك.
وقد كانت الأعمال الصغيرة- وفقًا لطبيعتها الريادية ومنهجيتها الابتكارية- ذات سبق في هذا المجال؛ عبر استحداث عمليات جديدة، وخدمات ومنتجات متطورة تُعني بالبيئة، وتحقق مفهوم الاستدامة، فيما يُعرف بريادة الأعمال المستدامة.
ثالوث الاقتصاد
إذًا، فالتنمية المستدامة، والاقتصاد المعرفي، وريادة الأعمال، ثالوث مرتبط ببعضه البعض، فكل منها يؤدي للآخر؛ فالتنمية المستدامة تتعامل مع الموارد بكفاءة عالية حتى لا يتم إهدارها والتعدي على حقوق الجيال المقبلة؛ وذلك عبر تفعيل آليات المعرفة في المجال الاقتصادي، فيما يعرف بـ “الاقتصاد المعرفي”، وهو ما يصلح مع المشروعات الصغيرة أكثر من غيره، لحاجة المشروعات الصغيرة إلى تجارب كثيرة.
صناعة المعرفة والابتكار
يقوم الاقتصاد المعرفي، على صناعة المعرفة والابتكار والإبداع، وتحقيق الريادة في الأعمال والإنجازات البشرية تباعًا، فهو اقتصاد لا يعتمد على مُعِّدات أو مناجم أو مصانع وأيدٍ عاملة وافرة، بل اقتصاد مبنيٌ على العقل البشري؛ إذ يستثمر في العقل البشري ليشكل أفكارًا وإبداعات علمية، ومن ثم تجارية تحقق الريادة للوطن في شتى المجالات، وتخلق فرص العمل لكادر بشري محترف، وترفع من المستوى المعيشي لعامة الناس.
المعرفة كسلعة
ويمكن تلخيص الاقتصاد المعرفي في: “نشر وتكوين وتبادل المعرفة كنشاط اقتصادي”، أو هو: “المعرفة كسلعة”؛ ما يعني اعتماده على صناعة وتداول وتقييم المعرفة؛ إذ تقلّ فيه الأهميّة المترتبة على تكاليف العمالة، كما لا يستخدم المفاهيم التقليديّة للاقتصاد، مثل النُدرة في الموارد، بل يعتمد نموّه على نوعيّة وكميّة المعلومات المتاحة، والقدرة على الوصول إليها.
وتُمثل المعرفة رأس المال الخاص بهذا الاقتصاد، وتتميز بأنّها لا تُحتكر، ولا تقلّ، ولا تَنفَد، وتهتمُّ بالعولمة، والتكيف مع رغبات العملاء، والتركيز على تقديم الخدمات للمستهلكين.
وتعتمد المعرفة على قوى عاملة قادرة على الإنتاج؛ حيث تشكّل الاتصالات والمعلومات الأداة الرئيسة لتحقيق فاعلية المعرفة التي تُساعد على زيادة نصيب الفرد من الناتج الإجماليّ المحلي، كما تُوفّر بيئة تُحفّز على الإبداع.
إدارة المعرفة
ويشير مصطلح اقتصاد المعرفة؛ إمّا إلى اقتصاد يركّز على إدارة المعرفة وإنتاجها في قيود وأطر اقتصادية، أو إلى اقتصاد مبني على المعرفة؛ أي يستخدم التقنيات المعرفية؛ مثل إدارة المعرفة، وهندسة المعرفة؛ وذلك لجني الفوائد الاقتصادية وخلق الوظائف؛ ما يتطلب استثمار الاقتصاد المعرفي بطرق وأساليب محددة.
خصائص الاقتصاد المعرفي
يتميز الاقتصاد المعرفي بالخصائص الأربع التالية:
- الابتكار: حيث يقوم على استيعاب ثورة المعرفة المتنامية، ومواكبتها، وتكييفها مع الاحتياجات المحلية.
- التعليم: وهو أمر أساسي للتنافسية والإنتاجية الاقتصادية؛ إذ يتعين على الحكومات توفير رأس المال البشري كالأيدي الماهرة والعاملة والمبدعة، والقادر على إدماج التكنولوجيا الحديثة في العمل، مع الحاجة الملحةً لدمج التكنولوجيا والاتصالات مع المهارات الإبداعية في برامج التعلم، وفي المناهج التعليمية.
- البنية التحتيّة: يتطلب الاقتصاد المعرفي بنية تحتية مبنية على الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات؛ لتسهيل نشر المعلومات وتجهيزها، وتكييفها مع الاحتياجات المحلية.
- الحوافز: يتطلب الاقتصاد المعرفي حوافز قائمة على أسس اقتصادية قوية؛ لتوفير الأطر السياسية والقانونية الهادفة لزيادة النمو والإنتاجية. وتهدف هذه السياسات إلى إتاحة وتيسير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وتخفيض التعريفة الجمركية على المنتجات التكنولوجية، وزيادة القدرة التنافسية للمؤسّسات المتوسّطة والصغيرة.
من النفط إلى اقتصاد المعرفة
تهتم المملكة العربية السعودية، اهتمامًا بالغًا بالاستثمار في عقول الشباب وأفكارهم الإبداعية؛ إذ بدأ هذا الاهتمام نظريًا في خطة التنمية الثامنة، ثم في خطة التنمية التاسعة، والتي أشارت إلى توجيه اهتمام أكبر، وتوسيع قاعدة الابتكار في جميع القطاعات، وتوظيف التقنية في جميع مناحي الحياة؛ وذلك للتحول من اقتصاد قائم على النفط إلى اقتصاد أكثر تنوعًا، قائم على الثروة المعرفية التي لا تنضب.
ومن هذه الرؤية انطلقت كافة المؤسسات الحكومية والشركات الكبرى في القطاع الخاص بدعم هذا التوجه؛ من خلال إقامة العديد من الفعاليات التي تحفز على الابتكار والإبداع وريادة الأعمال.
ومن هذا المنطلق، أصدرت وزارة الاقتصاد والتخطيط ورقة عمل حول استراتيجية وطنية واضحة المعالم للتحول إلى الاقتصاد المعرفي بحلول عام 2030م.
مشاريع بحثية بمليار ريال
وفي هذا الإطار، هناك تجربتان رائدتان لجامعتي الملك سعود، والملك فهد للبترول والمعادن، في تأسيس كل من وادي الرياض للتقنية، ووادي الظهران التقني؛ حيث تمكنت جامعة الملك فهد للبترول والمعادن- عن طريق وادي الظهران التقني- من استقطاب نحو 20 شركة، بينها 4 شركات كبرى في مجال النفط والغاز والبتروكيماويات، و9 شركات من كبرى الشركات العالمية بينها ”شلبمرجير”، ”هاليبرتون”، ”بيكر هيوز”، ”سيمنس”، ”جنرال إلكتريك”، ”يكو جاوا”، و”هني ويل”، وشركات محلية كشركة سبكيم واميانتيت، وشركات متخصصة في الخدمات المساندة؛ لتقيم مشاريع بحثية واستثمارات في بناء مراكز علمية، ومختبرات لتطوير أعمالها وتقنياتها بنحو مليار ريال.
وتقوم استراتيجية وادي الرياض التقني على ”تأسيس اقتصاد معرفي، وتوفير إمكانيات جامعة الملك سعود المعرفية والبحثية للمجتمع، وتحويل مخرجاتها إلى منتجات استثمارية في كيانات اقتصادية؛ ما يسهم في تنويع موارد الاقتصاد الوطني، وإيجاد فرص للتوظيف.
الخلاصة:
لايخفى على أحد، أنَّ اقتصاد المعرفة هو اقتصاد المستقبل، وأن ريادة الأعمال هي الآلية الناجعة للخلاص من مشكلات جمة في الاقتصاد والتجارة والاستثمار؛ من أجل تنمية مستدامة وموارد محدودة، يجب الحفاظ عليها.
محمد علواني