ﻛﺎﻥ ﺍﻷﺏ ﻳﺤﺎﻭﻝ قراءة ﺍﻟﺠﺮﻳﺪﺓ، ﻟﻜﻦ ﺍﺑﻨﻪ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮ ﻟﻢ ﻳﺘﻮﻗﻒ ﻋﻦ ﻣﻀﺎﻳﻘﺘﻪ، ﻭﺣﻴﻦ ﺗﻌﺐ ﺍﻷﺏ ﻣﻦ ﺍﺑﻨﻪ، أخرج ﻭﺭﻗﺔ من ﺍﻟﺼﺤﻴﻔﺔ بها ﺧﺮﻳﻄﺔ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻗﺪﻣﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﺑﻨﻪ بعد أن مزقها ﺇﻟﻰ ﺃﺟﺰﺍﺀ ﺻﻐﻴﺮﺓ، ﻭﻃﻠﺐ ﻣﻨﻪ ﺇﻋﺎﺩﺓ ﺗﺠﻤﻴﻊ ﺍﻟﺨﺮﻳﻄﺔ، ﺛﻢ ﻋﺎﺩ ﻟﻘﺮﺍﺀﺓ ﺻﺤﻴﻔﺘﻪ ﻇﻧًﺎ ﺃﻧﻪ ذلك ﺳﻴﺒﻘﻰ ﺍﻟﻄﻔﻞ ﻣﺸﻐﻮًﻻ طوال ﺍﻟﻴﻮﻡ، لكن بعد ﺧﻤسة ﻋﺸﺮة ﺩﻗﻴﻘﺔ، كان ﺍﻟﻄﻔﻞ ﻗﺪ ﺃﻋﺎﺩ ﺗﺮﺗﻴﺐ ﺍﻟﺨﺮﻳﻄﺔ!.
ﺘﺴﺎﺀﻝ ﺍﻷﺏ ﻣﺬﻫﻮًﻻ: ﻫﻞ ﻛﺎﻧﺖ ﺃﻣﻚ ﺗﻌﻠﻤﻚ ﺍﻟﺠﻐﺮﺍﻓﻴﺎ؟، فأجاب ﺍﻟﻄﻔﻞ: ﻻ، كانت ﻫﻨﺎﻙ ﺻﻮﺭﺓ ﺇﻧﺴﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻵﺧﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﺭﻗﺔ، ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﺃﻋﺪﺕ ﺑﻨﺎﺀ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺃﻋﺪﺕ ﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺃﻳضًا. كان ذلك محتوى قصة قصيرة للأديب البرازيلي “باولو كويلو”.
ﺗﺄﻣﻠوا العبارة الأخيرة: “ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺃﻋﺪﺕ ﺑﻨﺎﺀ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ، ﺃﻋﺪﺕ ﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺃﻳﻀًا”. وبالفعل، الإنسان هو محور بناء الحضارات والإنجازات والنجاحات، فقد استخلفه الله لإعمار الأرض والسعي والبناء فيها.
وما نراه من تقدم هائل في شتى المجالات، ما كان ليحدث إلا بمبادرات وابتكارات شخصية لأُناس وضعوا بصمتهم في تاريخ البشرية، أذكر منهم قديمًا: الحسن بن الهيثم (الكاميرا)، وجابر بن حيان (أبو الكيمياء)، والزهراوي (الآلات الجراحية)، والخوارزمي (الأرقام)، وحديثًا من غيروا نمط المعيشة بالعالم: بيل جيتس (مايكروسوفت)، ومارك زوكربيرج (فيسبوك)، إيلون ماسك (تسلا موتورز وسبيس إكس)، وستيف جوبس (أبل)، ولاري بيج (جوجل).
أكرر دَومًا: “الإنسان قبل البُنيان”، فسُور الصين العظيم أحد عجائب الدنيا السبع، بُني في الأصل كمشروع دفاعي عسكري يتكون من حوائط دفاعية، وأبراج مراقبة، وممرات استراتيجية، وثكنات جنود، وأبراج إنذار. وأثناء حكم أسرة مينج الملكية، بلغ طول هذا السور 7000 كيلومتر، كان يرابط عليه حوالي مليون جندي، ويمر بتضاريس جغرافية مختلفة ومعقدة؛ حيث يعبر الجبال، ويخترق الصحراء، ويجتاز المروج، ويقطع الأنهار.
ورغم هذا الإعجاز المعماري الهائل، إلا أن الصين تعرضت للغزو ثلاث مرات خلال المائة سنة الأولى من بناء هذا السور. وفي كل مرة، لم تكن جحافل العدو البرية في حاجة إلى اختراق السور أو تسلقه أو هدمه، بل كانوا يدفعون رشوة للحراس، ثم يدخلون عبر أبوابه. بكل بساطة، انشغل الصينيون ببناء البُنيان (السور) ونسوا بناء الإنسان (الحارس).
السؤال الذي يطرح نفسه: أين وكيف يمكن بناء الإنسان؟.
إن التنشئة الصحيحة، والبيئة المحيطة بالإنسان، خاصة في المنزل، وفي مراحل التعليم المختلفة، هي التي تبني شخصيته، وتُثمر شخصًا مؤهلًا طَموحًا مُنتجا مُبدعًا أو آخر خائبًا كسولًا مُحبطًا. الأمر أيضًا يتعلق بحريته وشعوره بالأمان؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يُنجِز شيئًا، إلا إذا كان حُرًّا، آمنًا في سِربه (نفسِه وأهلِه).
رحم الله جدتي التي كانت تكرر على مسامعي الحكمة المصرية البليغة: “ابنِ ابنك ولا تَبْنِ له”. تقصد ابنِ ولدك وعلمه ودربه؛ ليعتمد على نفسه، ولا تبني له القصور والعمائر، فيضيعها إن كان مدللًا. حكمة عميقة مفادها: “الإنسان قبل البُنيان”.