أمل دنقل ، المولود في الـ 23 من يونيو بمحافظة قنا عام 1940، هو واحد من بين أبرز الشعراء المعاصرين ليس من جهة إبداعه الشعري فحسب، وإنما من جهة كون هذا الشعر تعبيرًا عن مأساة الإنسان وعذابه؛ إذ كان الحزن رفيق الشاعر منذ الصبا؛ حيث فقد والده وهو في سن صغيرة.
وفجعه الموت مرة أخرى بموت صديقه وتوأمه الروحي يحيى الطاهر عبد الله؛ ذاك الملقب بشاعر القصة القصيرة، ورثاه «دنقل» قائلًا:
«ليت (أسماء) تعرف أن أباها صعد.. لم يمت.. وهل يمت الذى (يحيى) كأن الحياة أبد».
الكثافة اللفظية
ثمة ملاحظة عامة يمكن للقارئ أن يفطن إليها وهي أن أكثر الكتاب ألمًا وحزنًا هم أقل الناس كلامًا، وحين يكتبون فهم يعبرون عن أنفسهم في أوجز لفظ وأخصر أسلوب، كم عانى «أمل دنقل» كي يقول، على سبيل المثال، «ومتى القلب في الخفقان اطمأن».
وبطبيعة الحال، ليس بخافٍ على أحد تلك المعاناة الأخيرة التي ختم بها «دنقل» حياته وهي معاناته مع مرض السرطان، وعبّر هو نفسه عن هذه المعاناة في ديوانه الأخير «أوراق الغرفة 108»، وهي الغرفة التي ظل ماكثًا فيها والمرض ينهش جسده في المعهد القومي للأورام.
وعانى «أمل دنقل» أيضًا، طوال حياته، من آفة الفقر؛ إذ لم يكمل الفتى «دنقل» تعليمه في كلية الآداب، وغادرها منذ السنة الأولى، ليعمل في الكثير من الوظائف والمهن، تُرى لو أتم دراسته هل كان سيصير دنقل الشاعر الكبير؟ تُرى لو لم يعاني الرجل هل كان أمسى شاعرًا من الأساس؟
قبس من الشعر
ونرصد في «رواد الأعمال» طائفة من مقولاته؛ لتعرف مدى اقتصاده اللغوي وقدرته على الإتيان بالصور والتعبيرات التي قد لم يسبقه إليها أحد:
“تُرى: حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل ترى؟
هي أشياءَ لا تُشترى”.
«هي أشياء لا تُشترى» يمكن لهذه الكلمات أن تتموضع في أكثر من سياق، وأن يُستدل بها على أكثر من أمر، وهنا تكمن براعة المقول الشعري أو النثري، بما هو لا يخص صاحبه فحسب، وليس تعبيرًا عن حادثة مخصوصة، فكلما كان القول مجيدًا كان أكثف من الناحية الدلالية.
“والصمت يطلق ضحكته الساخرة”
مما/ ممن يسخر الصمت؟ لم يُجب «أمل دنقل» عن هذا، لكن عدم الجواب أفضل من الجواب ذاته؛ فالصمت، في الواقع، يسخر من كل هذر، ومن كل كلام يمكن أن يقوم أي شيء مقامه.
“آه .. ما أقسى الجدار
عندما ينهض فى وجه الشروق
ربما ننفق كل العمر .. كي ننقب ثغرة!ليمر النور للأجيال .. مرة
ربما لو لم يكن هذا الجدار ..
ما عرفنا قيمة الضوء الطليق!!”
لن تعرف شيئًا ما لم تفقده، وحين ترزح تحت نير الظلام، يحجب الضوء عنك جدارٌ ما (والجدار هنا تعبير رمزي من دون شك كما الضوء والظُلمة) فلن تعرف قيمة الظلام لو لم يكن هناك جدار، والضوء ليس معطى سلفًا لكنك اعتدت الأمر فقط.
“أنا أحببتك حقّا
إنّما لست أدري
أنا .. أم أنت الضحيّة؟”
من الضحية في الحب؟ الذي يُحِب أو الذي يُحَب؟ لا أحد يعلم في الحقيقة، وعدم علمنا هذا دليل على أن أفضل ما نشعر به لا نجيد التعبير عنه.
“ضد من.. ومتى القلب في الخفقان اطمأن ..”
لطالما رددت هذه الجملة بيني وبين نفسي، ولم يكن لديّ من تعليق عليها سوى: كم عانى «دنقل» ليقول هذه الكلمات اليسيرات الكبيرات معًا؟!
“العمر أقصر من طموحي،
والأسى قتل الغدا”
طالما كان الطموح كبيرًا فلن يكفيه الدهر برمته، خاصة إذا نهب الأسى فؤادك!
“شـــيء فــي قلبــي يحتـــرق.. إذ يمضـــي الوقــت.. فنفتــرق”
اقرأ أيضًا:
رواد الفن التشكيلي في العالم.. الشهرة والتقييم
بعد رحيله.. أهم أعمال كارلوس زافون المترجمة للغة العربية
«تشارلز ديكنز».. الوظيفة الاجتماعية للأدب