أصبحت التقنيات الرقمية تحيط بنا من كل جانب، وتزداد يومًا بعد يوم، إن لم يكن ساعة بعد ساعة. فهل ما تزال هذه التقنيات تضيف قيمة استراتيجية للعمل؟ وهل يمكن للابتكار الرقمي أن يقود النمو الاقتصادي على المدى الطويل؟.
نشر معهد مكينسي جلوبال (MGI) تقريرًا يتناول فيه هذه الأسئلة، ويبحث في منهجية الشركات الأمريكية في رحلاتها التقنية، اعتمادًا على 27 مؤشرًا لقياس مدى بنائها للأصول الرقمية، وتوسيع نطاق الاستخدام الرقمي، وخلقه بيئة عمل رقمية.
يشير التقرير إلى أنّ الابتكار الرقمي، واعتماده، واستخدامه، يتطور بناءً على الخطوات المتسارعة في كل مجالات الاقتصاد الأمريكي”.
وبمناقشة متأنية لبعض نتائج التقرير، فإنّ ICT (قطاع تقنية المعلومات والاتصالات) هو محرك الرقمنة بالنسبة للاقتصاد الأوسع نطاقًا؛ إذ شكلت تقنيات المعلومات والاتصالات نحو 5% من إجمالي الناتج المحلي GDP الأمريكي في عام 2014، ولكن -خلافًا للأسعار و السلع والخدمات في غالبية الصناعات الأخرى- انخفضت أسعار تقنيات المعلومات والاتصالات إلى نحو 63% في السنوات 1983-2010، مدفوعة بالتطورات الكبيرة في التقنية الرقمية على مدى تلك الفترة الزمنية.
وبالأخذ في الحسبان انخفاض هذه الأسعار وتعديل تأثيرها على القطاعات الأخرى، كان تقييم معهد MGI بأن قطاع تقنيات المعلومات والاتصالات شكَّل حوالي 10% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي لسنة 2014.
ومثل الكهرباء قبل قرن، تدعم الرقمنة حصة كبيرة جدًا من النشاط الاقتصادي؛ حيث تسيطر الآن التقنيات الرقمية على الاقتصاد بشكل هائل؛ إذ يستخدم 64% من البالغين الهواتف الذكية، ويستخدم 84% منهم الإنترنت، كما يزداد استخدامها بصورة متزايدة في التطبيقات الرقمية؛ مثل: التجارة الإلكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي، والمدفوعات الرقمية، وتدفق البيانات المرئية، والعوائد الضريبية الإلكترونية، وغيرها.
ويخضع مؤشر الرقمنة إلى 27 مقياسًا تابعًا للصناعة، تُصنف إلى ثلاث فئات رئيسة وهي: 1. الأصول الرقمية: وهو مقياس للحصة الرقمية للنفقات والأصول الإجمالية للشركة.
2. الاستخدام الرقمي: كالمعاملات الرقمية، والاتصالات الخارجية، وخدمات العملاء، ومعاملات مكتب المساندة والمكتب الأمامي.
3. القوى العاملة الرقمية: كالنفقات والأصول الرقمية لكل عامل.
كذلك، يُستخدم المؤشر لقياس مدى الرقمنة في 22 قطاعًا صناعيًا.
ويشير التقرير إلى أن الشركات الأمريكية تم رقمنتها بصورة غير متكافئة؛ حيث وُجد تفاوتٌ كبير بين القطاعات، فجاء قطاع تقنيات المعلومات والاتصالات الأكثر رقمية، تبعه قطاع الإعلام، ثم الخدمات المهنية والمالية، فيما جاء قطاع الرعاية الصحية والضيافة والإنشاءات والزراعة في المؤخرة.
ويتم حاليًا، تهيئة العديد من القطاعات؛ لزيادة قدراتها الرقمية خلال السنوات القليلة القادمة؛ حيث ينبغي أن يساعد النمو السريع للإنترنت، قطاع الصناعات التحويلية، والخدمات والتعدين بتمكينها من الرقمنة وربط اتصالاتها الداخلية بأصولها المادية، كما يجب أن تساهم الأدوات الذكية من كل الأنواع في رقمنة القطاعات المكثفة للعمالة؛ مثل البيع بالتجزئة والرعاية الصحية.
وطبقًا للتقرير، فإنّ الفجوة بين تلك المتعلقة بالحدود وباقي قطاعات الاقتصاد، تكمن في مدى تطوير الاستخدام الرقمي؛ إذ يوضح المؤشر هذه الفجوة المتنامية بين القطاعات الأكثر رقمية ففي عام1997، كان المؤشر الإجمالي “للأغنياء الرقميين” 8% من مؤشر”غير الرقميين”، ثم ازداد مع حلول عام 2005 مؤشر “غير الرقميين” بمقدار 1.7. وبحلول عام 2013 تجاوزت القيمة أربعة أضعاف عن عام 1997، كما ازداد مؤشر ” الأغنياء” أيضًا في عام 2005و عام 2013، إلا أنّه ما يزال يشكّل جزءًا يسيرًا من مؤشر”غير الرقميين”.
ويستمر مؤشر”غير الرقميين” بالدفع نحو حدود الرقمنة، وخاصة فيما يتعلق بمضاعفة ما يقوم به موظفوهم من أعمال، في حين يتبارى البقية في مواكبتهم. وتكشف الفجوة عن وجود مساحة كبيرة لمجالات اقتصادية متنوعة يمكن أن تشهد زيادة في الإنتاجية إذا ما تبعت الرقمنة.
وفي الواقع، طالما أن عدد القطاعات المتخلفة، تشكل النسبة الأكبر من حيث مساهمات الناتج المحلي الإجمالي والتوظيف، فإنّنا نجد أنّ الاقتصاد الأمريكي ككل يشكل 18% فقط من إمكانياتها الرقمية ( فيما يعرف بالحدود العلوية للرقمنة في القطاعات الرائدة).وتم التوصل إلى نتيجة شبيهة باستنتاج إريك برينجو لفسفون و آدم سواندر في كتابهما لعام 2009″ كيف تستطيع تكنولوجيا المعلومات إعادة صياغة الاقتصاد؟ “.
وعلى الرغم مما يقوله البعض بأن التكنولوجيا قد نضجت وأصبحت سلعية في مجال الأعمال، فإنّنا نرى الثورة التكنولوجية ليست سوى البداية؛ إذ تشير قراءتنا للأدلة بأنّ القيمة الاستراتيجية لتكنولوجيا الأعمال في طور الازدياد. فعلى سبيل المثال، منذ منتصف التسعينيات، كان هناك اتساع كبير في التفاوت في الأرباح بين الشركات الرائدة وغيرها المتخلفة في الصناعات التي تستخدم التكنولوجي بصورة كبيرة ( خلافًا للصناعة التكنولوجية).
وتعمل الشركات -ذات العائدات الكبيرة على الاستثمار في التكنولوجيا- في استثمار التكنولوجيا أكثر من كونها تشتريها؛ فهي تستثمر في رأس مال تنظيمي لتصبح رقمية.
وماذا بشأن تأثير الرقمنة على مستقبل النمو الاقتصادي؟
يعتقد مكينسي بأن الرقمنة يمكن أن تزيد الناتج المحلي اعتمادًا على تأثيرها في المجالات الثلاثة الرئيسة للاقتصاد:
• سوق العمالة: يمكن لمنصات الإنترنت أن تجعل سوق العمالة أكثر فعالية وشفافية؛ ما يزيد حجم المشاركة لدى القوة العاملة، ويساعد أكثر على التوفيق بين العاملين وأرباب العمل.
• فعالية رأس المال: يمكن لإنترنت الأشياءIoT أن يحسّن إلى حد كبير من استخدام أصول رأس المال، والاستفادة من الصيانة الوقائية للحد من تعطل المعدات والتكاليف التشغيلية.
• الإنتاجية بعوامل متعددة: يمكن للبيانات والتحليلات الكبيرة، وأجهزة المحمول، وسحابة الحوسبة، وإنترنت الأشياء IoT والمجالات المتقدمة الأخرى للتكنولوجيا أن تؤدي إلى ابتكارات كبيرة وجديدة، وتطوير أسرع للمنتج، وتحسين كفاءة الطاقة، والعمليات الشاملة الأكثر ذكاءً التي تدخل في جميع قطاعات الصناعة.
ويؤكد التقرير أيضًا على أنّ تلك الشركات يجب أن تتكيف مع اقتصادنا الرقمي المتقدم بصورة سريعة، وإلاّ ستتعرض للمخاطرة؛ لتخلفها عن الركب؛ لذ يجب إعداد قائمة بالقضايا الأكثر إلحاحًا التي تحتاج إليها الشركات ، بما في ذلك:
• الاستعداد لما هو أكثر صرامة، بالنسبة للعالم الرقمي؛ لكي يصبحوا رواد السوق بين عشية وضحاها.
• بناء أصول جديدة ومصادر عوائد؛ إذ عادة ما يقبل المنافسون الرقميون نماذج الأعمال المخلّة بالنظام.
• بناءالإمكانيات أو شراء المستقبل.
• الاستفادة من نماذج الابتكار الجديدة في أقسام الشركة كلها، وفي شركاء سلسلة التوريد ، والأوساط البحثية، والعملاء.
• التأكيد على سرعة الحركة والتعلّم.
• التفكير بطريقة مختلفة عن مكان عملك؛ فلمواكبة التكنولوجيات سريعة التغيير، تحتاج الشركات إلى الاستثمار في المواهب وبرامج التعلّم .
” لتبقى مواكبًا لوتيرة الابتكار الرقمي، فلا مجال للجمود، بل يجب سرعة الاستثمار في هذا المجال، والتركيز الشديد لتبقى في المقدمة.