بالتأكيد قد سمعت عن مجموعة بن لادن التي تتولى مهمة تنفيذ أعمال التوسعة في الحرمين الشريفين، وربما يتبادر إلى ذهنك –للوهلة الأولى- أن مؤسس تلك المجموعة لم يكن سوى شخصًا بارعًا حالفته كافة الظروف؛ ليمتلك إحدى أكبر شركات المقاولات ذات الأفرع في مختلف أنحاء العالم، والرائدة في مجال الإنشاءات بالشرق الأوسط.
بينما الحقيقة أن مؤسس تلك المجموعة العريقة لم ينل من التعليم شيئًا، بل كان شخصًا أُميًا لا يفقه مبادئ القراءة والكتابة. في السطور التالية نروي تفاصيل حياة محمد بن عوض بن لادن الذي بدأ مشواره المهني بالعمل كحمال للأمتعة بميناء جدة، قبل أن يتربع على قمة كبرى شركات المقولات في المنطقة..
البداية
ولد محمد بن عوض بن لادن عام 1908 في قرية رباط باعشن بإقليم حضرموت في اليمن، ونشأ في ظل أسرة فقيرة؛ فلم تتح له فرصة التعلم، وكان أميًا لا يُجيد القراءة والكتابة، كما دفعه فقره إلى دخول حلبة العمل في سن صغيرة، بينما كان لديه من العزيمة والمثابرة وتحمل المسؤوليه ما كان يبشر بمستقبل باهر ينتظره.
وفي عام 1930 هاجر بن لادن إلى المملكة العربية السعودية، إبان السنوات الأولى من حكم الملك عبدالعزيز بن عبد الرحمن آل سعود -رحمه الله-؛ ليخوض معارك الحياة، وعمل في البداية في أحد المطاعم، ثم حمالًا للأمتعة بميناء جدة.
دخول مجال البناء
انخرط بن لادن في أعمال المقاولات والبناء، واكتسب خبرات ضخمة؛ ما مكنه من إنشاء وترميم مباني بعض أهالي مدينة جدة، ثم أنشأ شركة صغيرة حملت إسمه كشركة متخصصة في مجال المقاولات العامة.
إبداع وتميز
تميز بن لادن بما يسمى بـ”البعاج” في الأعمال الإنشائية، وهو المصطلح الذي يُطلق على البنايات القديمة ذات العوج أو الميل؛ إذ برع في إعادة ترميم وإصلاح هذه المباني بأساليب معينة دون هدم أساسها أو تغيير تركيبتها؛ ما أسهم في الحفاظ على القيمة التراثية الأصيلة المنقوشة بعبق الزمان، ولهذا لقب بـ “المعلم”؛ لبراعته في أداء مهنته.
نقطة تحول
عندما اشتد عوده، سافر إلى “الظهران” في شرق المملكة؛ للعمل في شركة أرامكو لأعمال البناء، وحقق نجاحًا مبهرًا، جعل إسمه يلمع في مجال المقاولات؛ فاستدعاه الشيخ عبدالله السليمان؛ وزير المالية حينها، ليعود إلى جدة مُكلفًا ببعض الأعمال والتصميمات التي تتطلب ملكات ذهنية فريدة، ونجح في إنجازها بمهارة منقطعة النظير؛ ليذاع صيته كأحد أبرز العاملين البارعين في مجال الإنشاءات في المملكة.
ورشح وزير المالية، بن لادن، للملك عبد العزيز آل سعود؛ فاختصه الأخير بتولي مهمة بناء القصور الملكية بالرياض والخرج ثم أمره ببناء قصر خزام الخاص بالملك عبدالعزيز.
سلسلة من النجاحات
أصبح بن لادن من المقربين للعائلة المالكة؛ فتوالت الأوامر الملكية لتنفيذ عدة مشاريع في إطار بناء شبكة المواصلات والطرق السريعة عبر كل مدن ومناطق المملكة، ونجح بن لادن في تنفيذها جميعًا ببراعة؛ حتى نال رضا الملك عبد العزيز الذي أثنى كثيرًا على التزامه، وخبرته، وأمانته، وإتقانه لعمله.
أعظم الأعمال
استطاع بن لادن كسب ثقة الملك عبد العزيز آل سعود؛ فعينه مديرًا عامًا للعمائر والإنشاءات الحكومية، كما أوكل إلى مؤسسة بن لادن مهمة توسعة وترميم الحرم النبوي الشريف بالمدينة المنورة عام 1950، ثم الحرم المكي الشريف، ثم عُين وزيرًا للأشغال في عهد الملك سعود – رحمه الله -، واستكمل خلال فترة حياته مسيرة تنفيذ المشاريع الكبرى في المملكة.
وفي وقت لاحق، تهيأت له الفرصة لإعادة بناء المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة بعد الحريق الذي تعرض له عام 1969؛ ليتم بهذا الإنجاز أعظم أعماله المُتمثلة في خدمة المساجد الثلاثة التي تشدّ إليها الرحال.
صفات ريادية
- الإخلاص والأمانة
تحلى بن لادن بالخلق الحسن؛ فكان أمينًا وصادقًا؛ وتمكن من كسب ثقة الملك عبد العزيز؛ حتى أولاه مهمة إنشاء القصور الملكية وإصلاحها في كل أنحاء المملكة بدون عقود مكتوبة أو أسعار محددة.
- اتقان العمل
لم يكن الملك عبد العزيز ليحيل إلى بن لادن مهام توسعة الحرمين الشريفين، إلا لأنه التمس فيه الجدية، والإتقان، والتفاني في العمل، الذي لم يكن يخل من بصماته الإبداعية الفريدة.
- التدين والتواضع
على الرغم مما حققه بن لادن من ثروة كبرى، إلا أنه كان معروفًا بتواضعه الشديد، حتى أنه احتفظ بـ “القفة” -التي كان يستخدمها عندما كان حمالًا بميناء جدة- في منزله؛ لتذكره دائمًا بأنه كان شخصًا بسيطًا قبل أن يصبح أكبر مقاول في المنطقة.
- حب الخير
كان المعلم محمد بن لادن محبًا للخير، مسارعًا إليه وكان حريصًا على عدم رد من يطرق بابه؛ فلم ينسيه المال والثراء حياته الأولى عندما كان فقيرًا، كما حاز وحبة كل من تعاملوا معه.
حسن الختام
توفي الشيخ محمد بن عوض بن لادن عام 1967 أثناء تفقده لسير العمل في أحد مشروعاته جنوب المملكة، إثر اصطدام طائرته المروحية بجبل الطائف، ليترك خلفه سمعته الطيبة وإنجازاته الكبرى التي دعمت مسيرة التنمية الوطنية في المملكة العربية السعودية.
من ناحية أخرى ترك بن لادن ثروة بشرية متمثلة في أبنائه؛ إذ أنه تزوج 22 مرة، وأنجب أكثر من خمسة وخمسين إبنًا، أبرزهم: أسامة بن لادن، وسالم بن لادن، ويسلم بن لادن، وبكر بن لادن، ويحيى بن لادن، وعلي بن لادن.
وحرص الأب على إنشائهم على الأسس الدينية السليمة؛ ليتولوا إدارة شئون المؤسسة عقب وفاته، ولايزالون يمسكون بعجلة البناء والمقاولات وتعمير الأوطان بجانب مواصلة سلسلة التوسعات للحرمين الشريفين، التي بدأت منذ عهد الملك عبدالعزيز، وامتدت في كل عهود أبنائه.
كتاب المعلم
أطلق خلف أحمد عاشور آل سيبيه؛ المؤرخ السعودي المعروف, كتاب “المعلم محمد عوض بن لادن”, لتوثيق رحلة المعلم, ويعد الكتاب أحد أهم المراجع العلمية في رصد قصة حياة وأعمال الشيخ محمد بن لادن خلال رحلة أعماله مع الملك عبد العزيز والملك سعود والملك فيصل, كما يتناول مراحل تطور مؤسسة بن لادن، وما نفذته من مشروعات عملاقة داخل المملكة وخارجها؛ حتى باتت من أكبر المجموعات الاقتصادية في العالم.
رمز تذكاري
أقامت أمانة مدينة جدة رمزًا تذكاريًا للمعلم في حي العمارية، الذي انطلق منه نشاط مؤسسته، ليبقى قدوة حسنة وذكرى طيبة تُذكر الأجيال القادمة بقيمة التفاني في سبيل الوطن ورفعته.
عن مجموعة بن لادن:
- نجحت المجموعة في تنويع أعمالها؛ لتشمل مجالات البناء، والصناعة، والطاقة. ويتولى المهندس بكربن محمد بن عوض بن لادن، منصب المدير العام ورئيس مجلس إدارة المجموعة حاليًا.
- تُضم أبرزمشروعات المجموعة الوطنية: توسعة الحرمين الشريفيين ومسجد قباء، وتطوير جسر الجمرات، وتشييد مطار الملك عبدالعزيز الدولي بجدة، ومدينة الملك عبد الله الاقتصادية، وجامعتي الملك سعود وأم القرى.
- تشمل قائمة أبرز المشروعات الدولية: مطار الشارقة الدولي، والجامعة الأمريكية بالشارقة، ومطار كوالالمبور بماليزيا، ومطار الدوحة بقطر، ومطار السنغال الدولي.
- وفقًا لأخر التقارير الصادرة في العام الماضي، تُحقق المجموعة إيرادات سنوية تُقدر بنحو 30 مليار دولار، من جملة استثمارات تتخطى الـ 200 مليار دولار، وأغلب عمالها من المصريين.