شاهدت ذات يوم فيلمًا وثائقيًا، عن أحد أساطير الملاعب العالمية؛ وهو اللاعب الأرجنتيني “مارادونا”، الذي وُلدَ في كوخٍ صغيرٍ، ولأسرةٍ مِنْ الطبقةِ الكادحةِ وكان ترتيبه الخامس بين ثمانية إخوة.
عاش مارادونا طفولتَهُ في أحدِ أفقرِ أحياءِ العاصمةِ الأرجنتينيةِ، لكن ذلك لم يمنع من بروزِ موهبته، فكانَ لا يدعُ علبة فارغة أو شيئًا دائريًا أمامَهُ، دونَ أنْ يركلَهُ بقدمِهِ، وكانَ يحلمُ بامتلاك كرةً قدم؛ ذلك الحلم الذي حققَه لَهُ ابنُ عمتِهِ، عندما أهداه واحدة، كانت الأولى التي يمتلكُها في حياتِهِ وهو في الثالثةِ من عمره، فكان لاينامُ إلا وهو يحتضِنُها.
مهارات رائعة
كَتَبتْ عَنْهُ جريدةُ كلارين اليوميةُ الواسعةُ الانتشارِ عامَ 1971: “دييغو مارادونا صاحبُ السنواتِ العشرِ، يُجيدُ استخدامَ كلتَا قدمَيهِ”، وقد نالَ تصفيقًا حارًا بينَ شوطيِ مباراةِ “أرجنتينوس” و “اندبيندينتي”، عندما قدمَ عرضًا رائعًا لمهاراتِهِ في التحكمِ بالكرةِ والمراوغةِ، وكأنَّهُ وُلِدَ ليكونَ لاعبًا للكرةِ.
لَعِبَ مع فريقِ “أرجنتينوس” 136 مباراةً متتاليةً، لمْ يخسرْ مباراة واحدة؛ ليُعلِنَ عن نفسهِ وبقوةٍ بأنَّهُ الأسطورةٌ الجديدةٌ للكرةِ الأرجنتينيةِ، بل والعالميةِ قبل أن يتجاوزْ السادسةَ عشرةَ من عمرِهِ.
أصبحَ مارادونا أصغرَ لاعبٍ يشاركُ في تاريخِ الدوري الأرجنتيني وهو ابن ستة عشرَ عامًا وعشرة أيامٍ فقطْ. وفي عامِ 1977 ارتدَى القميصَ رقمَ عشرةً، ليصبحَ فيما بعدْ الأغلىَ والأشهرَ في العالمِ.
مثير للجدل
ورغم ذلك، يُعد “مارادونا” من الشخصيات الرياضية المثيرة للجدل؛ إذ تم توقيفه من كرة القدم 15 شهرًا في عام 1991 بعد ثبوت تعاطيه الكوكايين في إيطاليا، كما تم إعادته إلى بلاده أثناء فعاليات كأس العالم 1994 بالولايات المتحدة، بعد ثبوت تعاطيه مادة الايفيدرين. وبسبب بعده عن مهمته الرئيسة، اكتسب مارادونا وزنًا زائدًا، وعانى من اعتلال صحته، علاوة على الآثار المترتبة على تعاطي الكوكايين، والتي أدت إلى نقله للمستشفى مرات عديدة، وبعدها انتقل إلى كوبا للعلاج من الإدمان على نفقة الرئيس الكوبي فيديل كاسترو، وبقي طوال هذه الفترة عدو الصحافة الرياضية اللدود بالأرجنتين.
رحلة العودة
مع الوقت، تدارك مارادونا نفسه، وأفاق لمهمته، وبدأ في رحلة للعودة بعد معاناة وخسارة فادحة؛ إذ ساعدت عملية تدبيس المعدة على السيطرة على زيادة وزنه، والتغلب على إدمانه الكوكايين، والتغلب على سلوكياته المدمرة؛ حتى أصبح مدربًا للمنتخب الأرجنتيني في عام 2008، وقيادته خلال كأس العالم 2010، ثم تعاقد على تدريب نادي الوصل الإماراتي في عام 2011 ووصل معه لنهائي الأندية الخليجية.
هل كان مارادونا سيدفع هذا الثمن الباهظ، لو لم يكن توقف عن أداء مهمته بأية صورة ؟ وماذا لو لم يتدارك نفسه، ويعود لمهمته، فكم كانت ستكون نهايته فادحة؟!. إنَّ أبسط طرق النجاح، المداومة على التركيز على مهمتك التي تجيدها، والتي يجد غيرك صعوبة في القيام بها، مع حرصك على تطويرها طوال الوقت.
مواقع التواصل الاجتماعي
وحول هذا المعنى، لي تجربة في ذلك، فمهمتي المفضلة، القراءة المعرفيه المتنوعة، ومن ثم الكتابة المعرفية لأفضل ما أمر عليه من قراءات أو مشاهدات أو تجارب أو تأملات في الحياة. وأحيانًا، قد أنقطع عن هذه المهمة لأسباب وظروف مختلفة، لكن أكثر المُشْغِلات خطرًا بالنسبة لي، هو الانسياق وراء مواقع التواصل الاجتماعي، أو عبر التقنيات الذكية في الجوالات، أو البقاء ساعات أشاهد ما تبثه الفضائيات باختلاف مواردها ومشاربها، فعند رغبتي في العودة- بعد هذا الانقطاع- تكون المعاناة كبيرة في الانتظام، والوصال بعد الفراق، والاعتياد بعد الابتعاد؛ ما يستنزف مني أيامًا طويلة، تمنيت معها لو أني لم أتوقف مهما كانت الظروف؛ حتى لا أدفع هذا الثمن الفادح.
لقد بات من الضروري أن نتعلم كيف نسيطر على حياتنا، بحيث نبدأ بأولوياتنا وأعمالنا التي نحب، وأن نحدث أنفسنا ونحثها دائمًا على التركيز وتطوير هذه المهمات، وخصوصًا في هذا الزمان الذي نعيشه، والذي يحفل بالمُشْغِلات التي تصرفنا- وبشكل فادح- بعيدًا عن مهماتنا، والتي- بلا شك- تشكل النجاح الذي نحلم به في نهاية الأمر.
الأهم فالمهم
علينا أن نخطط لأوقاتنا بما يتسق مع قاعدة ابدأ بالأهم فالمهم، على أن يكون لمهامنا التي نحب أوفر نصيب من أيامنا. لذلك، أضع بين يديك استراتيجية هامة استفدت منها كثيرًا للتغلب على هذا الأمر، تتلخص في أن نبدأ أول ساعات يومنا بأعمال مهمتنا الرئيسة، وأن نخصص لها وقتًا محددًا وكافيًا لا يقل عن ساعتين أو ثلاث أو أكثر يوميًا، ومن ثم التعود على تقسيم هذا الوقت على فترات. وبعد انقضاء هذه الفترة- بتركيز وإنجاز- يتم مكافأة النفس والترويح عنها ببقية الأعمال، وبعدها نعود للتركيز مجددًا.
وكلما طرأ علينا أمرٌ يشغلنا عن مهمتنا، نتعود على تأجيله لفترات الراحة أو المكافأة التي نحددها، ولنكن موقنين بأنه عندما نتوقف عن مهامنا الرئيسة، فإن التبعات ستكون فادحة؛ لذا لا ينبغي أن نتوقف أبدًا.